ما يرفضه الواقع .. يحققه الخيال!


سعود السنعوسي:


"الخيال أهم من المعرفة، المعرفة محدودة في حين أن الخيال يشمل العالم"، هذا ما قاله آلبرت انيشتاين، وما أؤمن فيه صدقا، لأن الخيال يقف وراء كل عمل إبداعي، فالمقالة التي أحيكها الآن كانت، قبل قليل، عبارة عن خيوط متشابكة في خيالي، أعدت ترتيبها لأصنع منها مقالة، والفيلم السينمائي والمسرحية واللوحة الفنية والأغنية والرواية والنظريات العلمية وكل شيء كان في بدايته فكرة غير واضحة المعالم في مخيلة أصحابها، تتبلور شيئا فشيئا لتظهر بشكلها النهائي بصورة عمل إبداعي.
والأفكار الجميلة، شأنها شأن الأشياء الجميلة الأخرى في بلادي، موجودة، ولكنها، ولظروف ما، غير مرئية، حبيسة العقول، وهذا ما يشعرنا بالإحباط لأن لا قيمة لها، "فما قيمة الموجود ان لم يكن معلوما؟" كما يقول توفيق الحكيم. نحن نشعر بالإحباط حين نعجز عن اخراج ما في مخيلاتنا إلى أرض الواقع، ولكن، يجب ألا يسوقنا إحباطنا هذا إلى اليأس والتوقف عن ممارسة حقنا في التخيّل، بالنسبة لي على الأقل، فمخيلتي تفيض بالأفكار إلى درجة ضياعها ان لم أسجلها في ورقة تذكرني بها في وقت لاحق، وما هذه الورقة سوى شهادة ميلاد لعمل إبداعي قد يكتب له الاستمرار في الحياة، أو وقد يموت سريعا.
أنا أؤمن بوجود الجمال، وان لم يكن ظاهرا جليا، فوجوده أمر حتمي، وعاشق الجمال، يبحث عنه حيث كان، في زهرة "نوّير" صغيرة نبتت تحت الرصيف في شارع اسفلتي، أو في ابتسامة طفل في مجلس عزاء، أو في سحابة عابرة تظلل الأرض في صيف لاهب، هذا إذا ما نظرنا حولنا، ولكن مفهوم الجمال يختلف من شخص لآخر، فربما لا تعدو تلك المناظر التي ذكرتها أن تكون أمرا طبيعيا ليس به ما يلفت نظر البعض، هنا يأتي دور الخيال، اصنع ما ترغب في رؤيته، وان استحال وجوده في الواقع، قد يبدو لك الأمر غبيا، أو غير ذا نفع، ولكني جربت ذلك وكانت نتائجة أكبر مما كنت أتصور على نفسيتي، فما حيلتنا ان خلا واقعنا من الجمال؟ أو ان عجزت أعيننا عن إدراكه؟ سلم نفسك للخيال وحسب، فكم من حلم رأيته في سباتك كان وراء ابتسامة صباحية تعكس الحال التي أنت عليها، ابتسامة تجعلك تستقبل يومك بأجمل ما يكون، والعكس صحيح، قد نصحو عابسين أحيانا، مضطربين بسبب منظر كئيب رأيناه في حلم لا وجود له على أرض الواقع. ان الأحلام التي نراها نياما ما هي سوى خيال لا إرادي، يصنعه لنا عقلنا الباطن، إذن، لماذا لا نحلم بإرادتنا، وبالشكل الذي نرغب؟ طالما ان بمقدورنا أن نحلم ونتخيّل.
والخيال يأتي مكملا في بعض الأحيان، فهو يقوم بإضافة جمال إلى جمال، كأن ترسم طائرا أو سحابة بواسطة ريشة خيالية على سماء لوحة حقيقية. قد يبدو لك الأمر مستحيلا، ولكن، واصل قراءة هذه السطور فقد تفهم ما أعنيه إذا ما سردت لك تجربتي.
من أهم الأماكن التي أحرص على زيارتها عند سفري بعد الأماكن التاريخية والمتاحف هي المسرحيات الغنائية، والتي غالبا ما تكون مقتبسة من قصص عالمية شهيرة كالبؤساء وروميو وجولييت وشبح الأوبرا، أو تحكي قصة تاريخية معروفة كقصة كليوباترا ويوليوس قيصر.
ومثل هذه الاعمال الضخمة ليست موجودة في الكويت، بل والوطن العربي إذا ما استثنينا لبنان، حيث صنع "الرحابنة" مسرحا عربيا لا يقل روعة عن المسرح في أوروبا.
قبل سنوات، شاهدت عبر التلفاز مسرحية "المتنبي" الغنائية لمنصور الرحباني، واكتشفت حينها المسرح اللبناني، وكان اكتشافي هذا متأخرا جدا، فتاريخ الرحابنة، ومع السيدة فيروز، يمتد لسنوات طويلة.
بعد مشاهدتي لهذا العمل الضخم، المتنبي، بدأت أبحث عن أعمال الرحابنة المسرحية، ولكن ولسوء الحظ، ان الأعمال المسرحية الغنائية متوفرة فقط على أقراص CD تمكنك من الاستماع إلى المسرحية الغنائية بالكامل دون مشاهدتها. حصلت على مسرحية "المتنبي"، وأدمنت استماعها دون الحاجة لمشاهدتها لأني شاهدتها مرة على شاشة التلفاز، وأصبح لدي تصّور عن شكل المسرح والديكور وأزياء أبطال العمل، ولكن، جاءت تجربتي الثانية مع المسرح اللبناني في مسرحية "زنوبيا" الغنائية، حيث قد حصلت على CD العمل في إحدى رحلاتي للخارج، لأن هذه الأعمال، ولست أدري ما السبب، غير متوفرة في الكويت.
رغم ان "زنوبيا"، المسرحية، كانت مجرد Audio CD فانني استطيع وبكل ثقة أن أقول أني شاهدت مسرحية "زنوبيا" كاملة، ولم أكتف بالاستماع إليها وحسب، بل شاهدت أبطال العمل بأزيائهم وتعبيراتهم وخشبة المسرح التي كانوا يمشون عليها، وجاءت مشاهدتي تلك بواسطة الخيال ليس إلا، فلم أكن بحاجة لشيء سوى مكان هادئ أغمض به عيني، وأسلم فيه مخيلتي للموسيقى والمؤثرات الصوتية لهزيز الريح، وصليل سيوف الأبطال، ووقع أقدام الجيوش. هكذا، جاء الخيال مكملا، ليضيف جمالا على جمال، وأكاد أجزم ان ما شاهدته في مخيلتي كان أروع من العرض المسرحي الحقيقي، والذي لم تتسنى لي مشاهدته على خشبة المسرح أو شاشة التلفاز.
ان ما كنت أود أن انبه له في هذه السطور هو ان كل واحد منا قادر على صنع عالمه الجميل، وقادر على مشاهدة ما عجز عن مشاهدته على أرض الواقع، فإذا ما فقد الجمال من حولك، لا تتردد بإطلاق مخيلتك إلى الأماكن التي ترغب، تحدى الواقع بالخيال، خذ ما سلبه منك الواقع بقوة خيالك. حرمنا في الكويت من مشاهدة أعمال إبداعية ضخمة، ولكني حضرت أجمل العروض وأضخمها، هنا، في الكويت، في غرفتي مغمض العينين، استمعت وشاهدت واستمتعت رغما عن أنف الواقع!
والآن، جاء دورك، أغمض عينيك، وأنظر إلى أعماقك واستمتع بالجمال الذي تريد، ومن ثم لا تكتفي بمشاهدته، بل اعمل على تحويله إلى حقيقة تغير بها واقعك، وان شق عليك الأمر.

نشرت في:

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟