مدينة الأحلام
سعود السنعوسي:

تقع مدينتي تلك في الكويت، في مكان معزول عن المناطق السكنية المكتظة بالسكان، ليست بالكبيرة بحيث يتيه المرء في داخلها وليست بالصغيرة بحيث تشعر بالضيق إذا ما مشيت في ساحاتها. تنتشر المساحات الخضراء في كل مكان فيها، وتنتصب خلف أسوارها أشجار عملاقة لا تسمح بتسلل حبة غبار واحدة إلى الداخل. في مدينتي تلك لا وجود للسيارات إطلاقا، فوسيلة النقل الوحيدة هناك هي قطار كهربائي يغطي المدينة بالكامل. ليس في مدينتي وسيلة أخرى سوى الدراجات الهوائية لمن يرغب باقتناء وسيلة نقل خاصة، فتقليل فرص التلوث البيئي هو من الأولويات في مدينتي.
مدينة أحلامي، تحاول بقدر الإمكان أن تحقق اكتفاء ذاتيا تقلص من خلاله احتياجاتها لكل ما هو خلف أسوارها، فهي تعتمد على إنتاجها للمواد الغذائية النباتية والحيوانية من مزارعها الخاصة. وفي مدينتي مسجد جامع ينادي للصلاة فيه مؤذن ذو صوت شجي وتقام فيه الدروس الدينية، وتنتشر هنا وهناك مبان سكنية تتألف من دور واحد مطلية جميعها باللون الأبيض وموزعة بشكل مدروس ومنتظم، وأمام كل بيت من تلك البيوت حديقة تضم مجموعة من الشجيرات التي يمكنها أن تتعايش مع طقس الكويت الصعب. تضم مدينتي مكتبة ضخمة فيها من الكتب المفيدة ما يصعب على المرء حصره. تقع هذه المكتبة خلف سور قصير يمكنك مشاهدة ما خلفه. وينتصب خلف ذلك السور قصير الارتفاع عدة مدارس وجامعة تضم العديد من القاعات والمختبرات التي تحتوي على أفضل الوسائل التعليمية الحديثة، والأهم من تلك الوسائل التعليمية هي الكفاءات البشرية من مدرسين وأساتذة. وفي مكان آخر من
تلك المدينة منطقة ترفيهية فيها ناد رياضي تقع إلى جانبه صالة سينما لا تعرض سوى أفلاما مفيدة ذات مغزى تجعل من يفرغ من مشاهدتها يخرج بقيمة أو فكرة جديدة. وفي مكان آخر من تلك المنطقة مسرح متوسط الحجم مبني على أحدث الوسائل التكنولوجية بالإضافة إلى أهم ما يحتاج إليه المسرح المتطور من معدات عالية الجودة خاصة بمؤثرات الصوت والإضاءة، والأهم من ذلك هو ما يقدم على خشبة ذلك المسرح من أعمال هادفة. وخلف ذلك المسرح توجد قاعة كبيرة خاصة للإنترنت والأمور المتعلقة بتكنولوجيا الاتصالات.
حاولت قدر المستطاع أن أرسم صورتي لمدينة أحلامي على الورق، ولكني عجزت عن فعل ذلك، كما عجزت أن أفيها حقها في الوصف على هذه الورقة التي هي أمامك الآن، فهي بحق تحتاج لوصف دقيق قد يحملك على عدم مواصلة القراءة، أو قد يحملني على تقسيم الموضوع إلى عدة أجزاء يصدر كل جزء في عدد من أعداد المجلة، وهذا ما لا يفضله القراء عادة.
عموما، بقي الجزء الأهم والأصعب في هذا الموضوع. لقد أوشكت أن أفرغ من بناء المدينة، في مخيلتي، كما ذكرت سالفا، ولكن بقي الجزء الأهم وهو اختيار الأشخاص الذين ستفتح لهم مدينتي أبوابها، فلمدينتي أبواب قلما تفتح، وإذا ما فتحت فهي تفتح لتخريج دفعات من سكانها، أو لاستقطاب المزيد من السكان، ولكن! من هم الناس الجديرون بالعيش بمثل تلك المدينة؟ ان اختيار الأشخاص أمر غاية في الصعوبة، والأصعب من ذلك هو اختيار مجموعة من المتخصصين ممن تسند لهم مهمة اختيار سكان هذه المدينة.
أحلم أن تضم مدينتي تلك نخبة أبناء المجتمع، فلا يقبل الأفراد أو الأسر للانضمام إلى عالم مدينة الأحلام سوى بعد المرور بعدة اختبارات. أتخيل المجموعة التي أسندت إليها مهمة البحث عن أولئك الناس، بين طلبة المدارس والمدرسين والخبراء كل في مجاله. أتخيل كيف سيكون شكل تلك المدينة في المستقبل بعد أن تمتلئ بالمثقفين والمفكرين والعلماء الذين أسسوا تأسيسا صحيحا في بيئة صحية مختلفة. أناس مختلفون عن سائر أبناء المجتمع فكريا وثقافيا بل وحتى جسمانيا. أناس أسسوا على حب الدين والوطن والعلم. أناس لا يحمل قاموسهم مفردة التطرف. أناس كل همهم في الحياة العمل والتطوير. أناس بنوا علاقاتهم على احترام وجهات النظر والتفاهم.
ان مدينة الأحلام هذه ليست المدينة الفاضلة التي يبحث عنها الكثير والتي تحدث عنها الفلاسفة وحيرت العلماء، برغم ما يخيل إليك عند قراءة الأسطر السابقة، ولكن تلك المدينة يمكنها أن تخرج أفرادا وجماعات أصحاب فكر مستنير وأصحاب مبادئ يمكنهم بعد قضاء فترة طويلة داخل أسوار المدينة أن يخرجوا للمجتمع بفكر جديد ومغاير من شأنه أن يحسن الأوضاع ويطورها ليسير بالمجتمع نحو الأفضل. ان تلك المدينة وان لم تكن المدينة الفاضلة إلا ان سكانها، وبخروجهم منها إلى المجتمع الكبير يمكنهم المساهمة لتحويل الوطن إلى مدينة فاضلة. فالمدينة الفاضلة من وجهة نطري لا يحتاج بناؤها سوى التفاهم واستخدام العقل والعمل بإخلاص.
في النهاية، كانت تلك المدينة مجرد حلم، قد يكون تحقيقه أمرا مستحيلا، إلا انني سأواصل حياكته عله يصبح في يوم ما حقيقة.
نشرت في:
تعليقات
إرسال تعليق