«صندوق مبيّت» اسمه عبداللطيف البنّاي



عبّر عن حبه للوطن بلسان أهل البحر وأهل الصحراء كل بطريقته

سعود السنعوسي:

التطور سنة من سنن الحياة، والتغيير أمر حتمي لمواكبة مستجدات الزمن، ولتحافظ الأشياء على قيمتها، بعض الأشياء، في بعض الأحيان، لا بد لها أن تتنازل عن بعض خصائصها، ولكن، هذا ليس دائما.
للكلمة دلالة، ولا يوجد كلمة بغير معنى، فاذا ربطنا مجموعة من الأحرف بشكل عشوائي من دون أن يكون لها معنى أو دلالة فلن نستطيع أن نسمي تلك الأحرف كلمة.
في بعض الأحيان تحمل الكلمة معاني كثيرة، ولكن وقعها وتأثيرها على المستمع يتفاوت بين شخص وآخر، وهنا يأتي دور اللهجة، وهي التي تمنح الكلمة خصوصية تدعم المعنى، وتميزها عن باقي الكلمات «الباردة» التي نستمع إليها في القصائد والأغنيات في أيامنا هذه،وإذا ما جئنا للحديث عن القصائد الغنائية المحلية تتبخر أسماء الشعراء ولا يتبقى سوى القليل، ومن هذا القليل اسم لا بد أن أتوقف عنده، عبداللطيف البناي، هذا الشاعر الجامد المعتق الذي لا يتطور، جموده ووقوفه عند زمن معين زاده قيمة، وتخلفه عن بقية الساعين الى التغيير ميّزه عن غيره.
فيما يتسابق البعض للبحث عن كلمات جديدة دخيلة يتداولها الشباب في الشارع، يمضي الشاعر عبداللطيف البناي في السير عبر الزمن إلى الوراء، عكس التيار، لا يرهقه البحث في البيوت الطينية وبين الأسواق القديمة عن كلمة أسقطها التاريخ سهوا، ليكتب لها شهادة ميلاد جديدة. يتوارى عن الأنظار، يغيب ولا أخشى غيابه، لأنني على يقين بأنه في رحلة غوص، وسيعود يوما ما على ظهر إحدى السفن في موسم «القفال» حاملا لنا دررا من زمن لا يمكن أن يعود، ولكن بواسطة الكلمات التي تنتمي إلى ذلك الزمن البسيط يتسنى لنا، ولو للحظات، أن ننعم بشيء من الجمال، ولكن، ماذا لو عادت السفن من دونه؟ سبق أن حصل، ولكنه عاد كما هو دائما، كان قد تخلف عن ركوب البحر، فتبع النجمة، وصوت الربابة، إلى قلب الصحراء ليعود لنا حاملا في «مزودته» المزيد من الكلمات الأصيلة التي لم تتأثر حروفها ومعانيها مع مرور الزمن، مفسحا لها مكانا جديدا في قاموسنا الناقص.



لهجة كويتية



هذا ما يميّز البناي عن غيره، وهذا ما يجعل كلماته أكثر قربا، فكلماته وان استخدمها الغير، لا يمكن أن تحرك ساكنا في داخلي، لأن عبداللطيف البناي «يبچي» في حين «يبكي» بقية الشعراء، وأنا لا يهزني «البكي» بقدر ما يزلزلني «البچي»، لأنني لا أفهم «حكي» بعض الشعراء، بقدر ما أفهم «حچي» البناي، ومرد ذلك إلى نشأة الكلمة واللهجة وانتمائها إلى المكان ذاته الذي أنتمي إليه.

أضاع الكثير من الشعراء مشيته لاستقطاب أكبر عدد من المتابعين في ما استحدثوه من لهجة باردة أطلقوا عليها «اللهجة البيضاء» في حين انها خليط غير متناسق من الألوان لا يصلح لتكوين لوحة فنية رخيصة، وبقي عبداللطيف البناي على لهجته، بألوانها التي استمدها من زرقة بحر الكويت وسمرة وجوه غواصيها، فما ان أستمع لأي من أغنياته الوطنية أو العاطفية أو مسرحيات الأطفال الغنائية، حتى أجدني مادا لها كفّي متحديا: «أراهنك انك من كلمات البناي»! في حين تستمر الأغنية في استثارة مشاعري كأنها تؤكد: «ومن غير البناي يظهرني بهذا الشكل»؟!



خصوصية الثقافة



يخطئ البعض حين لا يميّز الفرق بين كلمات البناي وغيره من شعراء اليوم، فكلمات البناي في حد ذاتها ثقافة، مدرسة، تعلمنا منها شيئا من ماضينا دون أن نشعر، تشربناها منذ كنا صغارا، حتى في مسرحيات الأطفال، التي كانت في يوم ما، حين كان للطفل الكويتي مسرح، وسيلة تربوية ترفيهية هادفة. حين استورد حكاية «ليلى والذئب» العالمية، ليحولها إلى مسرحية «ليلى والذيب» الكويتية، من دون أن يفقد العمل الأساسي قيمته، بل ان البناي بخبرته وظف العمل المسرحي بشكل لافت ليلائم بيئة المكان وثقافته، حيث خصه بشيء من الثقافة المحلية، من دون أن يخرج العمل، كالكثير من الأعمال المستوردة، بشكل ممسوخ. مع انشغالنا بمتابعة «ليلى» ومراوغة «الذيب» كانت هناك رسائل تستقبلها عقولنا الصغيرة دون أن نشعر، رسائل أخفاها البناي بين زحمة الأحداث لتكوّن شخصياتنا في ما بعد بشكل غير مباشر، وكلمات أعاد لها البناي الحياة في هذا العمل، تشبه كلمات جدتي، وقليل من كلماتنا حين كنا أطفالا، كانت ليلى تحاكي الفتيات الصغيرات بلهفتها حين تلعب «الحَيلة» وتركب «الديرفة»، وتنتقي كلمات لها خصوصية، وان كنا نجهل معانيها، فاننا ومن خلال هذا العمل تعرفنا عليها بل وأصبحنا نرددها.



أعمال وطنية



لا يتوقف إبداع البناي عند هذا الحد، فإذا تجاوزت الحديث عن إبداعاته العاطفية، واختصرت في الإشارة إلى إسهاماته في مسرح الطفل، لا يمكنني أن انهي المقالة دون أن أذكر بالأعمال الوطنية التي صاغ كلماتها، بدءا من الأغنيات القصيرة، مرورا بأوبريتات البطولات الرياضية، وصولا إى الأوبريتات الوطنية الضخمة التي كان آخرها «الكويت لمن أحبها»، ولا أود التعمق في تفاصيل هذا العمل لأنه يحتاج الى موضوع مستقل، ولكن سأصف هذا العمل الإبداعي بكلمة واحدة، كان عملا «مبهرا» دون الخوض في تفاصيل الموسيقى والمجاميع والديكور والإضاءة، فالكلمات في حد ذاتها كانت مسرحا يحمل كل عناصره، أخذنا من مشاهد البحر في لحظات إلى قلب البادية، دون أن تختلط عليه اللهجات، عبّر عن حبه للوطن بلسان أهل البحر وأهل الصحراء، كل بطريقته، شعرنا ونحن نشاهد العمل بحرارة الرمال والعجاج والقيظ، شممنا رائحة البحر واستمعنا إلى أهازيج الأولين.



تكريم البناي



عبداللطيف البناي، ضاقت الصفحة، ولم أبدأ بعد بالكتابة عنه، متى يكرم هذا الإنسان بالشكل الذي يليق به، ومتى نحسن استغلال وجوده وفيض إبداعاته في ما يخدم الوطن، لأنه ذخر من الأيام الماضية، ولأنه يشبه «الصندوق المبيّت»، أخرجنا منه الكثير، ولا يزال يحمل بداخله المزيد من كلمات لها رائحة البخور والعود وماء الورد والحناء.

يغيب كعادته، يمضي بعض الوقت في زمن الأجداد، ثم يعود كما عهدته دائما عبداللطيف البناي، وفي كل مرة يعود، أبتسم، أجهز أذني لسماع جديده القديم، وأحييه بكلماته: «هلا في غايب ما غاب .. عليه مغمّض الأهداب .. فديتك لا تطق الباب .. تفضل قلبي مشرّع».

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟