"حمام الدار" لسعود السنعوسي .. رواية "لن تتم"!


كتبت بديعة زيدان: 

بتقنيات سردية مبتكرة، يدخلنا الروائي الكويتي سعود السنعوسي، في روايته الجديدة "حمام الدار" أو "أحجية ابن أزرق"، الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون، في حالة من اللايقين الدائم، منذ سطرها الأول، وحتى الأخير، عبر شخصيات ملتبسة ما بين واقع متخيل، أو خيال واقعي، أو لا هذا ولا ذاك، فعبر "عرزال" في القسم الأول من الرواية (مشروع رواية نص لقيط)، و"منوال" في القسم الثاني منها (مشروع رواية نص نسيب)، ما بين عهدين قديم وجديد، وما بين شخصين يحملان الحكاية ذاتها في زمنين مغايرين لا يغادرهما رمز اللون، واشتباكات الفلسفة، والعلاقات النفسية المركبة، يخرج بنص سردي مليء باشتباكات أسلئة بلا أجوبة، وتجريبي أدخل رسومات الفنانة مشاعل الفيصل كجزء محوري فيه، هو الذي يضع من السنعوسي في "صباحاته" (فصول الرواية) المقسمة ما بين حكايات الذاكرة وواقع مشكوك فيه، روائياً بمواصفات عالمية، ما بعد "الحمام والأحجية"، و"ساق البامبو" أولاً، و"فئران أمي حصة"، مؤكداً أنه لا يزال على قيد إبداع متقد، ويحمل لنا المزيد والمغاير في كل سرد ينتجه.
ولا يمكن وصف الرواية بالعادية، على المستوى التقني والفني، وحتى على مستوى طريقة السرد واللغة، والمراوحة ما بين ماض وواقع، وواقع وواقع مواز، وماض وماض مبني بخيالات قد تبدو مريضة، ولهذا أكثر من مؤشر، فقد تعكس الرواية حالة من واقع يبدو هو بذاته مريضاً ولا يقيني، وليس فقط هو حال الراوي العليم أو غير العليم ما بين "العهدين"، وهذا ما يضع القارئ أمام تحدي فك رموز الرواية الأحجية، وكأن السنعوسي يتعمد الارتقاء بالذائقة إلى أن يلقي القارئ القبض على محاولات استنفار كافة حواسه، في نص مدروس بعناية على مختلف المستويات.
وتحايل السنعوسي بذكاء على الغياب الزماني والمكاني للسرد بحالة من التأمل تنقل فيها ما بين العهدين، ليستعيض عن "عزرال" بـ"منوال"، وكلاهما "ابن ازرق".
جدل الروائي والشخوص
يبدأ السنعوسي في مطلع الرواية بالحديث عن كاتب خمسيني وحيد غريب الأطوار، اهتماماته تنصب على مراقبة حمامة تتخذ من دكة نافذة غرفته مستقراً لها، بل يقتحم يومياتها وصغيريها أحياناً، ويستعيد معها، ومن خلالها، طفولته المعذبة جراء قسوة "الأزرق" الأب، وما راكمت داخله من أحجيات كان منها أن كره لون السماء والبحر وكل ما يلامس باللون اسم والده.
وهنا تلتبس على القارئ ماهية الراوي الحقيقي، فهل الكاتب الخمسيني الذي بدوره يحاول محاصرة شخصيته المحورية "عرزال" في نص لقيط، لتحاصره هي، أم العكس، حتى أننا لا نعرف من يكتب منهما الآخر وعنه، فالكاتب يخطط لإنهاء روايته بانتحار "عرزال" الذي يأبى ذلك، فيرسل له "قطنة"، وهي شخصية تتراوح ما بين كونها صديقته "المعزة"، التي تقتل بطلق ناري عن طريق الخطأ، وما بين كونها فتاة، في محاولة لإقناع البطل الروائي هنا بالنهاية التي خطط لها الكاتب، أي إلقاء نفسه من النافذة، لكنه يصر على موقفه، فتتمردد الشخصية المحورية هنا على الراوي.
وفي إطار علاقة الروائي بشخصياته، أقتبس من العمل هذه الصورة الإبداعية على لسان "قطنة" كشخصية روائية، وهي تقول في مقتطفات متناثرة متقاربة "أوغل في تأمله يستحضر بعضنا، واحداً تلو آخر. يقلبنا في رأسه ويعيد تكويننا. يلعب دوراً لا يجيده. يلعب دور إله في أسطورة قديمة" .. "كنت عالقة فيما يشبه العدم قبل أن يستحضرنا مؤلفنا ساعة تأمله. مؤلفنا ومالك أمرنا وسقفنا الآمن إن هو أحبنا. له المجد الأدبي عدد مؤلفاته وما حملت من حروف وكلمات. نداهنه ونتوسل رضاه ولا نستفزه لئلا يكتب لنا نهاية بائسة. مؤلفنا موجدنا القوي الضعيف الصامت المتورط الدائم في صنعه. يجيء بنا من عدم. يقتل فائض وقته برسم أقدارنا. ينال مجداً وشهرة. ينال سمّواً يليق ببهاء صنعه. مؤلفنا الحقيق بكل مجد إن داهمه ملل، عسى ألا يداهمه، يتركنا حيارى في دائرة مفرغة، في جحيم الدرج السفلي، نتخبط في صفحاته الناقصة على غير هدى. كم من مخطوط لم ينجز بسبب عصيان شخصياته، وتمردها على مصائر قدّرها لها ...".
وحول ذلك قال السنعوسي: مررت بهذه الحالة لأوقات قصيرة، ولم تتحول إلى أزمة، لكني في "حمام الدار"، وضعت نفسي في مكان الكاتب الذي تتمردد شخصياته عليه، وتختار نهايات غير التي كان يخطط لها.
"العهد الجديد"
وينتقل السنعوسي إلى العهد الجديد مع "منوال"، الصورة الموازية لـ"عزرال" في زمن مغاير ولكن غير محدد عبر بوابة "العهد الجديد"، ليروي الحكاية الجديدة القديمة عن "ابن ازرق"، حيث تتواصل حالة "اللايقين"، وإصرار "بصيرة" الجدة على أن "حمام الدار لا يغيب، وأفعى الدار لا تخون"، وهي العبارة التي وصفها السنعوسي نفسه بـ"تعويذة الرواية".
و"بصيرة" هي الملاذ الآمن لـ"عرزال الطفل" من قسوة "الأزرق"، الذي كان يشكك دائماً في وجودها، ويؤكد أنها ابنة خيال ولده، هي التي لا يسمعها إلاه، وتغادر الحياة الواقعية أو المتخيلة في ذات يوم رحيل "قطنة المعزة"، التي تتحول إلى ابنة الخادمة في "العهد الجديد"، بينما تغادر "بصيرة" الرواية الأحجية مع نهاية عهدها القديم.
في "العهد الجديد" تطفو على الورق شخصيات جديدة، منها "منيرة" الزوجة التي تملكها الجنون بعد أن شاهدت غرق طفليها "زينة"، و"رحال" أمام عينيها، وسط ما كانت تصر على كونه تخاذلاً من "عرزال"، الذي حال رعبه من "الأرزق" الأب، الذي تراءى له كجدار هنا، دون اقتحامه لـ"الأزرق" البحر، فهلك الطفلان، اللذان أطلق اسميهما على صغيري الحمامة في "العهد القديم".
وفي هذا الجزء يستعيد "منوال" ذكريات "عرزال"، فيسرد "كنت في السادسة يوم هاجر والدي بصحبة أخوتي الأربعة الكبار، مخلفاً زوجة وولداً في البيت القديم. هجرة بلا سبب، أو ربما يعرف الكل أسبابها إلا أنا" ... "لا مؤنس لوحدتي مع أمي الواجمة، في بيت صامت، إلا كائنات حوش الغنم، في مكاني الأثير"، متحدثاً عن زوجة أب جديدة وبيت جديد وخادمة جديدة، إلا أنه يمتدح الفاجعة أيضاً بقوله "تركني لصغر سني وحسن حظي، عند أمي في البيت القديم"... "أمي التي أسمت أخوتي حمام الدار أمضت أيامها تتحرى عودتهم".
لكل مقام مقال
اللغة المستخدمة في الرواية، والعديد من مصطلحاتها تعود إلى الفصيحة الجزلة بعيداً عن الدارجة منها حتى، لدرجة أن القارئ مضطر في العديد من الأحيان إلى مراجعة قواميس ورقية أو الكترونية للتعرف على معاني هذه الكلمة أو ذاك المصطلح، علاوة على التعبيرات المجازية التي تجعلك فاغر الفيه إعجاباً بما أبدعه هذا الروائي الشاب وصفاً بلسانه أو لسان راويه الذي صنعه، أو شخصياتهما!
وأشار السنعوسي إلى أن كل عمل يفرض أدواته واشتغالاته ولغته التي يجب أن تتواءم وحال بطل الرواية وشخصياتها الموازية، وقال في حديث تلفزيوني معه: في "حمام الدار" اللغة تعكس حال بطل الرواية الذي يعاني من فقد وغياب ووحدة وأزمات نفسية متعددة، ومن هنا جاء الاشتغال على اللغة وعلى "المونولوج الداخلي" بالطريقة التي خرجت فيها على صفحات الرواية.
الرواية
في الرواية التي "لن تتم"، يشعر القارئ للحظات بالضياع، وفي أخرى بالانبهار، أو متعة الاكتشاف، ومن ثم يعود إلى انتكاسة المتاهات، ليصطدم بمفاجأت كثيرة تطل برأسها من كل صفحة، واحياناً من كل فقرة أو سطر .. هي لعبة الأحجيات المتتالية، في أجواء يلفها الغموض بدرجات متفاوتة، حيث الشخصيات الغرائبة على مستوى السلوك والتكوين غير المبرر لحين، أو لأحيان، ما يخلق حالة من الشغف لمواصلة القراءة، رغم ما قد تسببه من "صداع"، إذا لو تتوفر الجاهزية لاقتحام دهاليزها، جراء التداخلات الرهيبة للأحداث والشخوص والمراوحات التي تصل إلى التجريب في مستوياته العليا.

رابط المقال: جريدة الأيام الفلسطينية.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟