سرد التيمم وشيطان التفاصيل في ساق البامبو

 
باسم سليمان - القدس العربي
 
كان الشعر لدى العرب علمهم الأوحد يدونون به أيامهم السود والبيض وحدثانهم، فهل نطالب الرواية العربية بتلك المهمة الشاقة مع الظن الحامل لليقين أن الرأي السابق فيه الكثير من المكر الديني والسياسي!؟.
مهما استنسبنا للرواية من مهمات لن تكون إلا خطاب فرد أو لنقل قطعة من البزل لوحدها لن تشكل قيمة إلا من خلال القطع الأخرى التي ستشكل لوحة الخطاب الروائي الذي يُخط باللغة العربية، فالمدونة الروائية العربية التي بدأت تعالج قضايا وطنية/ قطرية منذ فترة تعتبر قصيرة بالقياس لتلك التي كانت تشتغل تحت المدّ القومي، بدأت بمقارعة مقدس جديد يضاف إلى الديني والسياسي والجنسي وهو صيغة الدولة التي تشكلت نتيجة لكل التمخضات الدولية والاستعمارية والسياسية والعرقية وما جرى ذلك من تشعبات عديدة أدت بطبيعة الحال إلى عدم تبلور مفهوم المواطنة من حيث أن النتيجة القانونية والواقعية لوجود الدولة تفترض المواطنة التي تذيب كل ما سبق تحت علم واحد لا يخفي تحت وحدته وعلانيته أي رقع أخرى.
سؤال التفاصيل:
رسول حمزتوف قال: العالم يبدأ من عتبة بيتي وهنا نسأل: ماذا عن داخل البيت وشيطان التفاصيل ومعطف غوغول وما يستره من رقع متنافرة متباعدة في كل بلد تكاد تشظيه وتدفع به نحو هاوية لا قرار لها!؟.
ما سبق هو ما تحاوله الموجة الجديدة من الرواية المدوّنة باللغة العربية وهي بالتأكيد مهمة شاقة حيث يصبح التماس مع الشبهات التي يثيرها مفهوم الوطن لا تردعه الحدود بل تصبح الحدود ذاتها شبهة متيقنة لا تدفع إلا بتقطيع من خلاف.
ساق البامبو المكسور:
هي رواية عيسى الذي تتقاسمه جينات الخادمة الفلبينية وراشد الكويتي. عيسى ليس ابن حجر بل ابن عقد عرفي، يستيقظ في بيت جده في الفلبين المدمن على مصارعة الديوك كمجاز آخر لعقابيل الحرب التي عاد منها.
همس أبوه بأذنه شهادة الإسلام ليقذف به بعيداً عن أرض الكويت، ليعيش مع أمه 'جوزافين' وخالته 'آيدا' وابنة خالته 'مريلا' وهنا يسرد عيسى حياة عائلته الفلبينية على لسان أمه لتخبر كيف أصبحت خالته تمتهن البغاء وعن استنزاف جده لحياتهم بمصارعة الديوك وكيف سافرت إلى الكويت وهنا حملت به من قبل راشد ابن الطاروف آخر ذكور العائلة المولع بالثقافة والقراءة والكتابة وولادته وكيف رفض من العائلة ومن جدته ' غنيمة' وكيف رُحلت من الكويت وبعدها دخول الجيش العراقي للكويت ومن ثم استشهاد أبيه ووصيته لغسان لكي يعيده للكويت وأنها دوماً تعده لهذه اللحظة ومع ذلك لم تهمل التنشئة المسيحية له.
يكبر عيسى ويعرف أكثر عن عائلته الكويتية من خلال الصور وبالمقابل يقدم وصفاً صريحاً للواقع الفلبيني سواء عن عائلته أو محيطه والأسئلة التي دارت في رأسه حول الأديان ومن ثم عشقه لمريلا.
وبعد ذلك يأتي إلى الكويت ويتعرف على عائلته التي ترفضه ومن ثم تقبل به على مضض معرجاً على مشكلة الأعراف ووضع الخدم والبدون وما جرى للكويت وأصحاب أبيه خاصة غسان الذي ينتمي لما يُسمى 'البدون' وابنة أبيه خولة وعماته وخروجه من البيت وسكناه لوحده إلى أن ينتهي به المطاف بالعودة إلى الفلبين وزواجه من مريلا وإنجابه أبنه الذي سماه على اسم أبيه راشد وكتابته هذه الرواية التي سيترجمها المترجم إبراهيم سلام.
سرد التيمم:
في القسم الذي يسرده عيسى عن الفلبين يبدو أكثر راحة وهو يقارب المحظورات في حين تبدأ المناورات في الجزء المسرود عن الكويت ولنضرب مثلاً، كيف يبكي غسان أمير البلاد الذي مات ولم ينقله من خانة البدون إلى خانة المواطن!؟ والأمر الأكثر أهمية مقاربته للدين الإسلامي التي بقيت ضمن خطاب عائم لا يغني ولا يُسمن من جوع ومحاولته المستمرة تبرير الرفض من قبل عائلته الكويتية على عادات وحسابات اجتماعية على لسان خولة أو غيرها!؟. المهم فيما سبق هو سرد التيمم لأن المصارحة والغوص في التفاصيل سترتب عواقب كثيرة رغم اللعبة البنائية التي قدمها الروائي سعود السنعوسي عبر العنعنة السردية بأن جعل الرواية متعددة الأسناد وكأنه يوزع المسؤولية أو يضيعها في حين ظاهر الأمر في اللعبة الروائية الحديثة أن هذا الأسلوب يزيد من المصداقية لدى القارئ الذي تجعله الرواية أحد أهدافها بإقناعه بأن المسرود هو من الواقع، فالعقد السردي وإن كان تخيلياً يطمح دوماً لمنافسة الواقع ومجاورته وحتى الحلول محله وهنا نعود لطرحنا في بدايات هذه القراءة عن المقدس الجديد الأشد بأساً من المقدسات التقليدية وهو ماذا عن ما قبل العتبة التي يبدأ بعدها العالم!؟.
مباراة كرة القدم:
من أكثر مظاهر الـ' show ' شعبية، كرة تنتقل بين الأقدام لتستقر في إحدى الشبكات، فتثور ثائرة الجماهير. مباراة كرة القدم يختم عيسى بها روايته بأن يسجل هدفين واحد في مرمى الفلبين وآخر في مرمى الكويت وهنا لم يكمل المباراة التي تنتهي لصالح الكويت وفق الهامش في أسفل صفحة النهاية.
الدلالة التي أراد أن يوصلها الكاتب بأن هذه الرواية مباراة من مباريات كثيرة ستعقبها والنتيجة لن تكون في صالح الكويت، إذاً هو تحذير مضمر بأن المقاربة التي اعتمدت التلميح والتقية إلى شيطان التفاصيل في الكويت ستكون في المرة القادمة أشد وطأة وأن قرني الشيطان رغم كل مساحيق التجميل بدأا بالظهور.
في هذا يُحسب للكاتب تلك النقلة التي جاءت تحذيراً ولم تكن 'كش مات' لكن سؤال البداية عن مهمة الرواية التي تجد لها الكثير من الرواج ألا نستطيع أن نرى فيها مكر المقولة القديمة عن الشعر!؟.
الرواية من مميزات المواطنة:
السياسة لا تعني فقط صناديق الاقتراع وفصل السلطات بل أكثر من ذلك بأن تكون قطعة البزل الصغيرة التي تًسمى المواطن هي البوصلة في تشكيل لوحة الوطن ونزع الرقع الخفية من علم البلاد أي بلاد وعليه من حقنا أن نطالب الرواية بأن تكون مدونة جدلية إلى جانب العلوم الإنسانية الأخرى بمواجهة الطريق الكلاسيكي لعلاقة الفرد بدولته ومجتمعه ومحيطه وعالمه وإنسانيته وكونيته.
'ساق البامبو' رواية سعود السنعوسي، صادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون لعام 2012 وهي في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية.

المصدر:




رابط الموضوع في جريدة القدس العربي



المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟