عقدة سعود!

سعود السنعوسي

لوحة للفنان بابلو بيكاسو

منذ سنوات وأنا أعيش عقدة لم أتمكن من التخلص منها..
أول القصيدة كفر! فأنا لم أحاول يوما أن أتخلص من عقدتي تلك، لأنها لا تزعجني، ولأنها وببساطة، أصبحت جزءا من شخصيتي، وان قامت على فكرة مجنونة. إذا هي ليست عقدة بالمعنى المتعارف عليه، رغم ما تسببه لي من متاعب في بعض الأحيان، ولكنها كذلك في أعيّن من يعرفون عني هذا الطبع.
عقدتي تلك ليست كعقدة «أوديب» أو عقدة «إلكترا» الشهيرتين في الأساطير الإغريقية، فإذا كانت الأولى تشير إلى تعلق الولد بأمه، وغيرته عليها من أبيه، أو في تعلق الفتاة بأبيها وعدائها لأمها كما في عقدة «إلكترا»، فان عقدتي تلك تشير إلى تعلقي الشديد والشعور بالأشياء من حولي.. كل الأشياء.
تربطني بالأشياء من حولي علاقة وثيقة، تقوم على الوفاء، مهما بدت تلك الأشياء تافهة. ويعود أصل العقدة إلى النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، كنت ووالداي وجدّتي واخوتي نقضي يوما من أيام الشتاء في برّ الكويت، في منطقة الصبّية تحديدا، حيث نصب والدي خيمة صغيرة من تلك الخيم التي تصلح للـ «كشتات» القصيرة. قضينا يوما ممتعا هناك، ولا أتذكر اليوم شيئا من تلك «الكشتة» سوى ما حدث في نهايتها، حيث وُلدت عقدتي إياها. عندما بدأت الشمس تتوارى خلف الأفق، أمرنا والدي بمساعدته بفك أعمدة الخيمة البلاستيكية، وحمل الأغراض إلى السيارة «الڤان». فرغنا من نقل كل شيء إلى السيارة، وتكدسنا داخلها. ومن خلال زجاج النافذة الجانبي للسيارة كنت أشاهد مكان الخيمة الذي كان خاليا من كل شيء إلا علبة مناديل ورقية خالية. شط خيالي بعيدا، في حين كان والدي ينتظر بعض الوقت بعد أن أدار محرك السيارة ليسخن قبل العودة.
كنت أفكر في حال تلك العلبة التي كانت، حتى وقت قريب، تربض مع أخوتها، فوق أحد رفوف الجمعية، وقد تناقص عدد اخوتها العلب بعد ذلك، ليصبح بعدد أصابع اليد الواحدة فوق أحد رفوف المخزن في المنزل، وها هي في آخر المطاف تستلقي وحيدة في العراء.
حرام! سمعت تلك الكلمة، ولست أدري أمن ضميري صدرت أم من العلبة الوحيدة المستلقية على الرمال الباردة هناك. فتحت باب السيارة، ترجلت منها، ثم عدت حاملا العلبة بين يديّ الصغيرتين.
«عفية على وليدي» قالت أمي وهي تحسب اني فعلت ذلك حفاظا على نظافة المكان، في حين كان خوف العلبة هو الصوت الذي دعاني لانتشالها من براثن البرد والوحدة والظلام.
في طريق العودة، كان والدي يغني بين الحين والآخر، على إيقاع تصفيق جدتي: «وصلنا البيت لو بعد؟» ويردد اخوتي من بعده: «بعد شوية وارتعد»، وكنت أنا في تلك الأثناء منشغلا في أمر علبتي الآمنة بين يديّ كرضيع ينعم بالطمأنينة بين يديّ والدته.
لم يشغلني مصير العلبة الفارغة بعد ذلك، فسلة المهملات، على قسوتها، أكثر أمانا من الصحراء، وفي داخلها، كما كان يجول في عقلي الصغير، يمكن لعلبتي أن تكوّن صداقات جديدة مع علب فارغة أو مناديل أو أوراق مهملة، وبهذا اتجهت لسريري في نهاية اليوم المُرهق مرتاح الضمير، لتتكرر المواقف بعد ذلك بشكل مستمر، ولتنصب عقدتي خيامها في صحراء ذاتي.
كانت الحكاية الثانية، والتي نبهتني إلى أن عقدتي ليست بأمر طارئ، حكاية قوقعة، أخذتها من شاطئ البحر في إحدى عطلات نهاية الأسبوع، وشعرت بضيق شديد بعد أن عدت إلى المنزل، وأخذت أعد الأيام لأدرك العطلة القادمة، ليتسنى لي حملها مرة أخرى إلى حيث يقيم أهلها فوق ذلك الشاطئ الرملي أمام «الشاليه».
كبرت، وازداد شعوري بالأشياء من حولي، أجدني مرتبطا بها، استمع لأحاديثها، وأشعر بما يجول في خواطرها، ولا أدخر وسعا في اعطائها حقها، ذلك الحق الذي صنعته لها بنفسي، ووجدتني ملتزما به إلى درجة تقيّدني أحيانا، ولكنني كنت سعيدا على اي حال، لأنني لم أشعر بالوحدة قط، فكل الأشياء حولي تشعر بي كما أشعر بها.
في يوم ما، ليس ببعيد، كنت قد فرغت من وضع كل شيء داخل حقيبتي، قبل أن أتجه إلى المطار عائدا لبلادي، ولكن منشفتي الزرقاء الكبيرة لم تجد لها مكانا داخل حقيبة السفر، بعد أن ملأتها بما اشتريته أثناء إجازتي، فَرَدْتُ المنشفة فوق السرير في غرفة الفندق، حملت حقيبتيّ، الكبيرة في يدي، والصغيرة على ظهري، ثم حثثت الخطى مسرعا باتجاه الباب، حاملا في داخلي شعورا كبيرا بالذنب: «جئت بها من بلادي لأتخلى عنها في بلاد غريبة!» وفي الممر المؤدي إلى المصعد الكهربائي كان شعوري بالذنب قد تورّم في داخلي بشكل لم أعد أطيقه، عدت مسرعا إلى غرفتي، نظرت إلى منشفتي الزرقاء، وابتسامة ندم تعلو وجهي. طويتها وحملتها معي وخرجت. كان منظري يبعث على الضحك بحق. بينما كان الرجال في المطار يحملون معاطفهم في أيديهم، كنت أنا أحمل منشفتي الزرقاء وأنهي إجراءات الصعود إلى الطائرة.
لم يتوقف الأمر عند علبة المناديل الورقية الفارغة، أو قوقعة الشاطئ، أو منشفتي الزرقاء، فحكاياتي مع الأشياء الصامتة حولي لا تنتهي، دفاتر الطفولة وأقلامي الفارغة.. ملابسي القديمة.. إطارات الصور والأكواب والكثير من الأشياء التي تبدو تافهة.
قالت لي صديقة ذات يوم، وكانت تعرف حكايتي مع الأشياء: «سعود! محظوظون أولئك الذين يعيشون حولك، فإذا كانت علاقتك بالأشياء بهذا القدر من الحب، كيف ستكون علاقتك بالبشر؟».
اكتفيت بابتسامة، دون أن أخبرها بأني لا أحمل شيئا في داخلي للبشر كما أحمله للأشياء الصامتة من حولي. تلك الأشياء، جمعتني بها أماكن وأوقات ومواقف وحكايات، لم أشك منها يوما، ولا هي نطقت شرّا، كل ما بيننا صمت صادق، صمت له صوت أجمل مئات المرات من .. كلام زائف!

نشرت في:

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟