صوت الظِلّ وصمت الظلام

سعود السنعوسي

 لوحة للفنان الايراني مهرداد جمشيدي

     أسند رأسه المثقل بالأفكار الى الوسادة، وأخذ يسترجع أحداث اليوم.. الحضور الكثيف.. لوحاته المعلقة على جدران المعرض.. حديث الزوار وإشاداتهم برسوماته الجميلة.. واختلاف الآراء حول دلالات الألوان والخطوط التي ابتدعها بريشته. صور جميلة تشي بحجم النجاح الذي تربع على قمته، ولكنه، رغم ذلك، لم يكن مطمئنا، فقد كان مهزوزا من الداخل، وكان يعرف ان الناس ستغيّر آراءها بفنه عاجلا أم آجلا كما هي العادة. انصرف عن كل المشاهد الجميلة التي رآها والعبارات الرقيقة التي سمعها في ذلك اليوم، والتفت إلى لوحة واحدة ملقاة على الأرض في الطابق السفلي.
أزاح اللحاف عن جسده. جرّ خطواته المترددة وكأنه يتقدم نحو منصة إعدام. نزل إلى الطابق السفلي حيث تستلقي اللوحة المهملة مقلوبة في إحدى الزوايا يلفها الظلام. وقف على مقربة منها، يتحسس الجدار بكفه بحثا عن زر الإضاءة. أغمض عينيه ورفع كفّه أمام وجهه بحركة لاإرادية ما إن أضاء المكان من حوله، وكأن النور شظايا زجاج تطايرت باتجاهه. فتح عينيه ببطء، وأزاح كفه من أمام وجهه ليلقى ظله مستلقيا إلى جانب اللوحة أمامه على الأرض.
اقترب منها، جلس على ركبتيه، ولكن ظله لم يتحرك! حمل اللوحة بين يديه وأخذ يتفحصها: «ما الذي يميّزها عن لوحاتي؟»، سأل نفسه، ثم تابع: «انه يستخدم الألوان التي أستخدم، مالي أراها مختلفة؟». أغمض عينيه، وأخذ يمرر أنامله على اللوحة، يتحسس النتوءات على سطحها، ثم قرّب أنامله من أنفه يشم بنفس ضاقت به رئتاه. سمع ضحكات مكتومة. فتح عينيه مذعورا ليجد ظله على الأرض يهتز من فرط الضحك. «مالك تضحك؟»، سأل ظله، فأجابه: «لا رائحة للوحة، ولا ملمس يميّزها عن لوحاتك». احمرّ وجهه خجلا: «أعرف.. ان السر في الألوان»، هزّ ظله رأسه رافضا الفكرة: «ولا الألوان». أزعجه أن يبدو جاهلا أمام ظله: «اني أقصد التقنية التي يستخدمها في رسم لوحاته». انفجر ظله ضاحكا. «ما الذي يضحكك؟» سأل ظله غاضبا، في حين تعالت ضحكات الظل مرتطمة بالجدران يكررها الصدى.
نهض من على الأرض كالمجنون يتوعد ظله: «حسنا.. سأريك»، وركض باتجاه زر الإضاءة يطفئ النور. اختفى الظل، واختفت ضحكاته، وبقي صداها، تتلقفه الجدران وتقذف به في كل اتجاه إلى أن تلاشى شيئا فشيئا. لفّه الصمت. ثم تقدم إلى اللوحة يحملها بين يديه، ولكن الظلام حال بينه وبين مشاهدة تفاصيلها.
أضاء النور مرة أخرى، وأخذ يبحث عن شيء ما حوله على الأرض. «عمَّ تبحث؟»، التفت إلى الجهة التي جاء منها السؤال، وإذ بظله يجلس على كرسي في إحدى الزوايا واضعا ساقا على ساق. تجاهل سؤال ظله، وأخذ يحدّق في اللوحة بين يديه. «لوحاتك جميلة»، قال له الظل. ومن دون أن يلتفت إلى ظله قال هامسا: «ولكنها أجمل!».
ترك ظله الكرسي وتقدم نحوه. وضع ذراعه على كتفه: «هل تعرف السر؟»، صعُبَ عليه أن يجيب بعدم معرفته، فهو فنان معروف، يتداول الناس اسمه في كل مكان، وهو أكبر من أن يبدو مهزوزا حتى أمام ظله. واصل الظل: «هذه اللوحة تشبه صاحبها».
قال ظله هذه الكلمات، ثم توجه إلى الجدار حيث زر الإضاءة: إلى اللقاء!
تركه الظل. جن جنونه، وجرى في اتجاه الحائط يشعل النور، وأخذ يتلفت في أرجاء المكان، على الأرض، الجدران، السقف والكرسي في الزاوية البعيدة، ولكن ظله لم يظهر هذه المرة!
ترك اللوحة على الأرض، ثم اتجه إلى المرسم في ملحق المنزل. أعد المكان، وجهز الألوان، ثم شرع في رسم لوحة تشبهه، من دون أن يفكر في زوار المعرض وآرائهم. وحين فرغ من رسم اللوحة وجدها صادقة، تشبهه إلى حد التطابق، ولكنها لم تكن جميلة، ولم ترض طموحه في الجمال الذي اعتاد أن يظهر به.
شعر بضيق شديد. وأخذ يمزج الألوان على لوحه الخشبي، ليصل إلى لون يغطي به عيوب اللوحة. تناول ريشته.. غطس طرفها في اللون الجديد.. امتصت اللون.. وقبل ان يلامس طرفها اللوحة ظهر ظله إلى جانبه، همس في أذنه: «ان الصورة الحقيقية، وان كانت قبيحة، هي أجمل من صورة جميلة.. مزيّفة!».

نشرت في:

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟