خنفساء ومكتبة خضراء


سعود السنعوسي:

لا شك ان أطفال اليوم لا يشبهون أطفال الأمس، فهم أكثر ذكاء مما كنا عليه، لا سيما في مجال التكنولوجيا، ولكن، في الوقت الذي اكتسب فيه أطفال اليوم خبرة لم تتح لنا في وقت مضى، نجدهم يفتقدون لما هو أهم، فأطفال اليوم، أكثرهم، يفتقدون البراءة والبساطة التي تميّز هذه المرحلة. أقول ذلك وفي داخلي ما يشبه الحسرة حين أتابع الأطفال من حولي كالآلات الفارغة من المشاعر، يتقاتلون داخل شاشات الكمبيوتر، يحملون أسلحة لا أعرف لها أسماء، يمضون في السير بين الجثث بحثا عن أعداء متخفين خلف الأبنية، أو بحثا عن ذخيرة تضمن لهم البقاء لوقت أطول، وبينما أنا أشاهد تلك الجرائم التي ترتكب على شاشات الكمبيوتر، تشدني ملامح أولئك الأطفال وهم مغيبون تماما عما حولهم، تضغط أصابعهم بشكل تلقائي على أزرار مقابض التحكم، وتنتهي اللعبة المجنونة، في كل مرة، بنفس الطريقة، مهزوم يتطاير الشرر من عينيه متوعدا بالانتقام، ومنتصر تعلو وجهه ابتسامة لا تناسب طفلا، تتسلل من بين شفتيه كلمة: ذبحتك!
المشكلة ان تلك الأجهزة، ألعاب الكمبيوتر، والتي لا يكاد يخلو منها منزل، هي في الغالب مكافأة من أولياء الأمور إلى أبنائهم نظير نجاحهم أو تفوقهم في الدراسة، وتجد أحدهم أحيانا في حيرة من أمره، كيف لا يشتري لأبنائه هذه الألعاب المجنونة في حين ان الجميع يفعل، غير مدركين انهم يضاعفون عدد السفاحين بهذا الأسلوب.
في طفولتنا المبكرة، لم نكن أطفالا مثاليين، وفي الحقيقة لا أعرف كيف يكون الطفل مثاليا، ولكنني على يقين بأننا كنا أطفالا نعيش طفولتنا بكل تفاصيلها، نشط بخيالاتنا بعيدا، ولا تخلو هذه الخيالات، مهما بدت مجنونة، من البراءة، ولعل من أهم الأسباب التي حافظت على توازننا كأطفال، بالنسبة لي على الأقل، هي تلك القصص التي فرضها علينا محيطنا، في رحلاتنا إلى معارض الكتاب التي تنظمها المدرسة، وفي الحصص المخصصة للمكتبة في رياض الأطفال، حين كنا نتابع الصور على الأوراق دون أن ندرك حرفا واحدا مما جاء فيها، وفي «حزاوي» أمهاتنا وجداتنا التي كانت المتعة الأكبر بالنسبة لنا في ذلك الوقت.
هكذا نشأت علاقتنا مع الكتاب، وهكذا نضجت عقولنا، حين كانت القصة بالنسبة لنا عالما لا نحلم بالوصول إلى أبعد منه، لأنه ما من خيال يتجاوز تلك القصص.
لا أزال أتذكر جيدا تلك اللهفة التي كنت أشعر بها عندما أتبادل وزملاء الفصل بعض القصص، أعطي أحدهم قصة من سلسلة «المكتبة الخضراء» التي تصدرها دار المعارف، لأحصل على قصة من سلسلة «ليدي بيرد بوك» ذات العلامة الشهيرة التي تحتل إحدى زوايا الغلاف، الدعسوقة أو الخنفساء المرقطة التي أعشق.
أجدني اليوم، وأنا الذي نشأت على تلك القصص، حاملا بين يديّ كتابا وقلما، ولا أزال أحمل في داخلي عوالم وخيالات الطفولة، مدن أقزام وحيوانات ناطقة وحقولا ومروجا، يحتلني الخوف من أولئك الذين سيكبرون، ليمزقوا كتابي ويكسروا قلمي ويقتلوا أقزامي ويقطعوا ألسنة الحيوانات ويشعلوا النيران في الحقول والمروج الخضراء وليسحقوا بأقدامهم .. دعسوقة الطفولة.

تعليقات

  1. ..
    جمعتهم من حولي.. وحكيت لهم قصة الصغير سعود والكابوس الذي أفزعه وأرّق مضجعه! وحين انتهيت صمتوا لبرهة، ثم نطق صغيرهم سائلا: هل يخافنا؟ هل نحن الوحوش؟ أجبته: لست أدري، ما رأيك؟ فسكت، ثم طلب مني أن أقصصها عليهم مرة أخرى! وعندها أنصتوا جميعهم وكأني أحكيها للمرة الأولى ! وانتهينا وقد أعجبتهم القصة، وشغلهم أمر الكابوس، وتمنوا لو رءوا دعسوقة الطفولة الجميلة..

    شكرا لك..
    دام حرفك وفكرك
    قارئة من بيت 5

    ردحذف
  2. قارئة من بيت خمسة،،
    حفظ الله أولئك الذين جمعتهم حولك، وحفظك لهم.
    لأتمنى لك ولهم أيام "دعسوقية" جميلة، كتلك التي نحن إليها.
    شكرا جزيلا لمرورك الكريم .. ودمت سالمة.
    سعود

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟