وقت وعدّى والعمر بس هذا حدّه


سعود السنعوسي:

ارتبط اسمها في مخيلتي بأيام لا يمحوها الزمن، أيام الطفولة المبكرة، حين كان جدي لوالدتي ينتهز فرصة حضوري في «زوارة الخميس» من كل أسبوع ليجلسني بقربه، وكنت لا أتجاوز الخامسة آنذاك، كان يسكت الجميع معلنا بدء وصلتي الغنائية الأسبوعية، لأنطلق مرددا: «رفرف يا علم بلادي .. فوق السهل والوادي»، كان ذلك يتكرر كل أسبوع، وسط ضحك الأهل واندهاشهم لأدائي الحركي والتعابير التي تحتل وجهي أثناء الغناء.
لم يستمر ذلك طويلا، فقد أصبح الأمر عاديا لا يلفت انتباه أحد سوى جدي بسبب تكرار المشهد ذاته كل أسبوع. أزعجني انصرافهم عني، رغم عدم وجود منافس، ولأنني، ورغم صغر سني، كنت أعرف ان التكرار يصرف الجمهور عن الفنان، فقد اخترت نمطا آخرا للغناء، لألفت الانتباه إلى موهبتي من جديد.
جهز لي جدي مكانا بقربه كعادته، لأنطلق بعدها مسلطنا مبهرا الجميع: «انت بديت انت تتحمل .. والا نسيت ان الزمن ضدك تحوّل؟» تضج الصالة بالضحك، ثم أشير إلى عينيّ بإصبعيّ الصغيرين: «من الأول وأنا عيوني تشوف» واضعا كفي الصغيرة على صدري وتعابير الأسى تحتل ملامحي: «من الأول وقليبي يتحمل» لأختم بعد ذلك: «وتبيني بالصبر هم أتجمل؟ تبدل كل شي وانت تبدل» تنتهي الأغنية، وتستمر الضحكات تتعالى من حولي، لأصبح بعد ذلك حديث الأسبوع.

مشاهد عالقة

كبرت، وسقطت أحداث كثيرة من الذاكرة، إلا ان بعض المشاهد لا تزال عالقة في ثناياها، ضحكات الأهل، وأدائي الحركي، وأغنية رباب تأتيني من الماضي توقظ الذكريات الجميلة.
لست بصدد الكتابة عن رباب الفنانة، بل أنا هنا لأحول مشاعري إلى كلمات حول «خيرية عمارة» الإنسانة، تلك المجنونة بحب الكويت، المسكونة بعشق «خيطان» حيث قضت أجمل سني عمرها. غريب أن تحمل هذه المشاعر تجاه إنسان لا تعرفه شخصيا، ولم تلتقه قط، ولكن، تتلاشى تلك الغرابة حين ندرك تأثير تلك الشخصيات علينا، ورباب، أو خيرية، لم تؤثر فينا فنيا من خلال أعمالها فقط، بل ان لقصة حياتها وظروفها القاسية أشد التأثير على نفوسنا، نحن من تابع مسيرتها وعايشها بكل تفاصيلها، ولأن المثل يقول: «يا بخت من بات مظلوم ولا بات ظالم»، لن أقول سوى يا بختك يا رباب، فقد رحلت مظلومة، وبقينا نحن...!
رفض الاحتلال

خرجت من الكويت قبل الاحتلال بفترة، لتمثل الكويت في قرطاج، ثم تعرضت لأزمة قلبية نقلت على إثرها إلى الولايات المتحدة للعلاج، وفي تلك الأثناء تحركت جيوش الاحتلال لتغزو الكويت، لتطير رباب إلى القاهرة تشارك أخوتها الكويتيين في المسيرات الرافضة للاحتلال.
ولم تكتف ابنة الكويت بذلك، فقد قامت بتسجيل 6 أغنيات وطنية من كلماتها وألحانها ضمتها في ألبوم من إنتاجها، لتعبر من خلاله عن موقفها الرافض للاحتلال، ولتصبح بذلك الفنانة الأولى التي غنت للكويت، قبل زملائها الكويتيين: «شدّوا الحيل .. الكويت صاحت بليل .. شيب وشباب احنا .. يا كويت لو صحنا .. عدونا نذوقه الويل .. وشدّوا الحيل».
شددنا الحيل، ومرت الأيام لتعود لنا الكويت مرة أخرى، ولكن من دون رباب، فقد منعت من دخول الكويت، ليس لشيء سوى ان الحب والولاء والشعور بالانتماء أمور لا تكفي في وجهة نظر المسؤولين، فقد تناسوا عطاءها ومواقفها ولم يغضوا الطرف عن جنسيتها العراقية، جريمتها التي لم ترتكب.

كيف ننساها؟

واليوم، ماتت رباب، ماتت خيرية، ولم يحرك موتها قلمي بقدر ما حركه الشعور بالذنب الذي أحمله بداخلي تجاهها، كيف لنا أن نجازيها بهذا النكران وهي التي أفنت حياتها في إسعادنا؟ كيف لنا أن ننساها وهي التي غلفت لنا صوتها هدية نهديها الى من نحب؟
لا تزال دمعات أمي ماثلة أمامي، تلك التي ذرفتها في يوم الأم قبل ما يربو على العشرين عاما، حين أهديناها، أنا وأختي، ألبوما غنائيا لرباب تقول إحدى أغنياته: «أمي يا كل الحنان .. أمي يا كل الأمان .. يا أغلى اسم بلساني غنيته .. يا أحلى رسم بعيوني خشيته .. لي ضاق صدري وزادت أحزاني .. من غيرك ترى يا يمّه يرعاني .. يا نهر جاري على مر الزمان».
فهل ننسى رباب وهي التي شاركتنا أسعد أيامنا وأتعسها بأغنياتها العاطفية والاجتماعية والوطنية وبمقدمات أجمل المسلسلات الهادفة؟
أكتب هذه الكلمات الآن، وأستمع لصوتها يتسلل من جهاز الكمبيوتر إلى أذنيّ مضاعفا شعوري بالذنب: «خليجية وعطري من عطر الكويت .. أحب الكويت وأحب الناس فيها .. وفيها كم غنيت .. أغني شلون ما أغني .. وأنا منها وهي مني».

عودة بعد انقطاع

في عام 2004، حين عادت رباب للغناء بعد انقطاع دام سنوات، صفعتني أغنيتها التي عكست معاناتها، لتنتهج رباب بعد ذلك نهجا في كل ألبوماتها الغنائية، حيث أصبحت تخصص أغنية للكويت مخاطبة إياها بصفة الحبيب، ولكن أغنياتها تلك مرت مرور الكرام ولم يفهم رسالتها سوى القلة من الذين يعرفون قصة رباب: "ظلموني عذبوني وقالوا اني ما وفيت .. قالوا اني ما أحبك وآنا والله ما حكيت .. قالوا انك ما تبيني .. واني عندك انتهيت .. لما قالوها بصراحة انكسر قلبي وبكيت".
رحلت رباب، ورفض تلفزيون الكويت أن يخصص سهرة تلفزيونية لها كما يفعل مع مبدعي الكويت الذين غادروا الحياة. رفضوا إحياء ذكراها الجميلة، ولكنها، وبرحيلها، أيقظت ذكرياتنا النائمة منذ سنوات، لنترحم عليها، وعلى أيامنا الجميلة البسيطة، وليتضاعف شعورنا بالذنب، تجاه إنسانة خسرت وطنها الذي ولدت به من أجل وطنها الذي أمضت فيه أجمل سنوات عمرها، ليجازيها الأخير بالنكران .. رباب .. خيرية عمارة .. بودّي أن أعتذر، ولكن، هل تتذكرين ماذا قلتي لي حين كنت طفلا؟ لم أفهم كلماتك رغم اني كنت أغنيها: "وقت وعدّى .. والعمر بس هذا حدّه .. وقت وعدّى .. لا أنا ولا انت نردّه"

تعليقات

  1. الله يرحمك يا رباب
    يا ليت تقدرين تقرين هالكلام

    ردحذف
  2. حلو المقال وانا قريته بوقت نزوله بالقبس وتاثرت
    رباب ضحيه الظروف السياسيه والفنيه
    بدر

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟