ألسِنة الإسفلت

سعود السنعوسي:
مجلة الكويت عدد 345 يوليو 2012

     فور فراغي من زيارة الأماكن التي خططت لزيارتها منذ كنت في الكويت.. تاج محل.. قلعة آغرا.. متحف غاندي ومنزله ودكّة حرق جثمانه.. جامع مسجد.. حديقة القصر الرئاسي.. ومنارة قطب، أو "كوتوب مينار" كما يسمونها هناك. تحمّس سانجاي، سائق الفندق، لاهتمامي بكل التفاصيل من حولي، ليريني، على حد قوله، ما لا يستطيع السائح العادي رؤيته: "بما أنك روائي، سوف أريك أشياء جديدة لا أريها السيّاح عادة". كان كثيرا ما يردد حينما يحدثني عن بلاده: "عذرا سيّدي أنا لست مثقفا.. لم أكمل تعليمي". لا يدرك هذا الـ سانجاي كم كان مثقفا، إن لم يكن حكيما بالنسبة إليّ. سألني، عندما كنا في السيارة: "ماذا تعرف عن الهند؟". أجبته، مزهوا، بكل ما أعرف، بدءًا بالهندوسية وكتبها المقدّسة، المهابهارتا والرامايانا، مرورا بـ مهاتما غاندي وطاغور وجواهر لال نهرو.. نهر الغانج ومعابد هانومان، وصولا إلى أميتاب باتشان وأفلام بوليوود. أطلق سانجاي زفرة طويلة يقول: "حسنا.. أنت لا تعرف أكثر مم يعرفه الناس في الخارج". استطرد يسأل: "هل ترغب برؤية الهند التي لا أحب أن يراها الغرباء؟". هززت رأسي متحمسا. أردف: "قد يساعدك هذا على كتابة شيء ما".
     في منطقة لست أدري أين موقعها في خارطة الهند. ولكنها ليست بعيدة عن نيودلهي العاصمة، كنت وسانجاي. نزع معطفه ذا الأزرار الذهبية، ثم أخفى قبعته السوداء وقفازيه أسفل مقعد السيّارة: "كي لا ينتبه أحد إلى وجود سائح"، قال مبررا.
     منطقة فقيرة جدا، ولكنني أحببتها.. جدا. أحببتها لأنها تظهر بصورتها الحقيقية. صادقة. تعرف فيها حكايات الناس من وجوههم. الابتسامات على وجوه الأطفال العراة. القرود بأعداد البشر، أحدها يسرق شيئا ما من رجل عجوز، لعله رغيف خبز. الحرية التي تتمتع بها الأبقار الهزيلة في الشوارع من دون أن يبدي سائقو السيارات والدراجات النارية تذمرهم. الكلاب الضالة المسالمة تسرح بين البشر بأعداد هائلة. الرصيف يكاد لا يظهر لونه الحقيقي تحت البقع البنية الداكنة للـ بان الذي يبصقه الهنود في كل مكان. مظلات صغيرة يجلس تحتها البعض يعرض سلعه. والغربان في كل مكان، في الأرض والسماء وبين الناس، أميّز، رغم ضجيج الشارع، نعيقها. لا يجمع بين كل تلك المخلوقات في ذلك المكان سوى.. الجوع.
     كوني أحببت المكان، لا يعني أنني لم أشعر بالألم لذلك البؤس الذي يعيشه البعض. قلت لـ سانجاي، أثناء عودتنا إلى السيّارة: "الديموقراطية في الهند، كما أعرف، في أكمل صورها.. ألا تصلح ديموقراطيتكم أحوال البشر؟". أجاب باسما: "لو أننا لا نخاف الشارع!".
     حدّثني سانجاي أثناء الطريق، في حين كان يشير بيده إلى يمين الشارع ويساره حيث المساحات الشاسعة على مد البصر. وراء تلك المساحات أعداد هائلة من البشر. الحكومة تخشى أن تمد الشوارع إلى قراهم، فقد يكون الشارع سببا في وصولهم إلى المدن، وإذا ما تمدّن أولئك البشر سوف يعرفون حقوقهم، يطالبون بها. يضيّقون على الحكومة. أهل هذه القرى يخافون الشارع أيضا. هم لا يريدون للحكومة أن تمد الألسِنة الإسفلتية إلى قراهم، خوفا من أن يفقدوا أبناءهم إذا ما أصبحت الطريق سالكة إلى المدينة. وإذا ما ترك الأبناء القرى.. تبور الأرض وتموت الحيوانات.
     نظر سانجاي إليّ عبر مرآة الزجاج الأمامي للسيارة. سأل: "كيف هي الشوارع في الكويت؟". أجبته بصوت عال: "تصل إلى كل مكان". أردفتُ بصوت خفيض: "ولكن الديموقراطية..!".

نشرت في:



المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟