ما بيني.. وبيني

متران وتسعة وعشرون عامًا

سعود السنعوسي:



     كان يوم جمعة، الساعة تشير إلى الواحدة والنصف صباحاً. يكاد الظلام أن يبتلع المكان لولا النور المنبعث من المصباح المعلق في زاوية الغرفة. والنوم، يجلس في زاوية أخرى، إلى جانب الخزانة، يترقب استسلامي له، بعد أن جاوزت الساعة موعده المعتاد. فوق سريري أضطجع، على جانبي الأيسر، وإلى جانبي، فوق السرير، يستلقي دفتري هذا مفتوحاً بانتظار كلماتي التي سأرسمها على صفحاته كالوشم.
أمامي، على يسار السرير، تستند صورة قديمة. الصورة بالحجم الطبيعي لطفل في عامه الأول يجلس على الأرض، ممسكا بقلم. وكأنه يجلس على أرض غرفتي، فالصورة تستند على جدار الغرفة، فيما إطارها السفلي يلامس الأرض.
لا وجه للشبه بيني وبين الصورة سوى الدهشة المرسومة على وجهينا، والقلمين اللذين نمسك بهما بين أصابعنا.
تفصل ما بيني وبين الصورة مسافة مترين، وزمن يقارب التسعة والعشرين عاماً. أتجاوز المسافة بنظري لأرى وجه ذلك الطفل في الصورة، ثم أغمض عينيّ، والنوم في زاوية الغرفة يهم باحتضاني لولا قلمي ودفتري المفتوح، والتعبيرات التي احتلت ملامح وجهي.
نبّهني الطفل، في الصورة، إلى سنوات عمري التي مضت، وبأنني اقترب من الثلاثين، مودعا عشريناتي بكل ما حملته من أحداث لم يتبق منها سوى صور تقاوم النسيان.
في طفولتي وسنوات مراهقتي كنت متلهفا لإدراك العشرين، وكنت أضيف سنة إلى سنوات عمري إذا ما سألني أحدهم عن سنّي، ومستقبلا، إذا ما كتب لي الله عمرا، سأحّن إلى سنوات العشرين، ومن يعلم، ربما أتحايل على نفسي لأحذف سنة أو سنتين من سنوات عمري إذا ما سألني سائل. واليوم، على حدود الثلاثين، لا أتمنى سوى أن يتوقف بي الزمن، لا أكبر ولا أصغر، لأعيش بقية حياتي ابن التاسعة والعشرين، ابن العشرينات التي أحببتها ولا أريد مفارقتها. ولكن، لست وحدي من يكبر، فالهم جماعي.
تركت سريري، والطفل لا يزال بملامح الدهشة. توجهت إلى زاوية الغرفة حيث الخزانة، تنحّى النوم جانبا وهو يتأفف، ليفسح لي مجالا لأفتح بابها. أخرجت حقيبة صغيرة تضم ألبومات صور، تركتها على الأرض بعد أن أخرجت منها صورة كُتب على ظهرها «ثانية/ثالث». كانت صورة جماعية لي ولزملائي في الفصل، حين كنا في المرحلة الابتدائية. أخذت أتفحص الوجوه، مرددا أسماءها من دون أن أنسى واحدا منها، واحد وثلاثون طالبا، لكل طالب وجه واسم و .. حكاية.
بعد أن أتممت سهرتي بصحبة أصدقائي في الصورة، أغمضت عينيّ ليضمني النوم الذي سئم الانتظار.
صحوت من نومي بعد طرقات تكررت على باب غرفتي: «يالله .. صلاة الجمعة .. تأخرت!»
أثناء الطريق، وتحت تأثير الحنين إلى الماضي، والخوف من المستقبل، قررت أن أصلي الجمعة في المسجد القديم، حيث كنت أسكن فيما مضى، في المنطقة التي تلقيت بها تعليمي في جميع المراحل الدراسية.
على الأرض جلست، مسندا ظهري إلى الحائط، عن يميني خطيب الجمعة، وعن يساري باب المسجد يستقبل المصلين.
يدخل ناصر بصحبة والده، بالمشية نفسها، كما لو كانت رؤيتي لهما، في المسجد نفسه، قبل أسبوع واحد فقط، يوم الجمعة الماضي. ثم يدخل يوسف بصحبة ولدين، يصلي، والولدان يقلدان حركاته. وعند الباب، هناك محمد ينزع نعليه، يتبعه عبدالرحمن وإبراهيم .. كلهم هنا .. الماضي هنا.
كنت أحتفظ بأرقام هواتف بعضهم، تبادلناها منذ سنوات، حين كنا نتلاقى صدفة في مكان ما، من دون أن يفكر أحدنا في الاتصال بالآخر. ولكن، في ذلك اليوم، بعد صلاة الجمعة، وفور عودتي إلى البيت، وجدتني آخذ نسخة من الصورة الجماعية من خلال جهاز السكانر، أرسلتها إلى هاتفي النقال عبر الكمبيوتر، ثم أرسلت الصورة إلى هواتف زملاء الفصل القديم. وخلال دقائق وصلتني ردودهم رسائل واتصالات ملؤها الحنين إلى الماضي، والوقوف في الحاضر، والخوف من المستقبل.
بعثت رسالة شكر إلى الطفل في الصورة، تجاوزت المترين، لتسبر أغوار تسعة وعشرين عاماً، قصيرة بالنسبة للحياة، طويلة بالنسبة إلي، سنوات شهدت قصص حب لا تنتهي في بيت احتضن طفولتي، وصداقات تكاد أن تكون حقيقية لولا نهاياتها، وولادة أشخاص وموت بعضهم، ودروس وعبر، وحكايات وسفر، وكتابة وكُتُب، وراحة وتعب، وخوف من المجهول وفقدان من نُحب.
كل هذا وأكثر، عثرت عليه في تلك المسافة بيني وبين .. صورتي.

نشرت في:



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟