سعود السنعوسي.. حمام الدار

 د.وفاء شعراني*


     في قصةٍ يرويها على وتيرةٍ عاليةٍ من مهارة التعقيد، ربما كان السنعوسي يريد القول بأنه لا يمكن التفكير دون تخيُّل، وأن المخيّلة هي نتيجة علاقة الحواس بالعالم المحسوس ، احتمالٌ أول يتبعه احتمال ثان مرتبط بالعهد االقديم ، والعهد القديم أسفار ، في ” حمام الدار “، العهد القديم ، صباحات تتوالى مثقلة ببحث مشكلة العقل حيث اتت في النص متداخلة مع سيكولوجيا الادراك لطرح سؤال عن ماهية العقل وتلك العلاقة بين المشاعر والمكوّنات الإدراكية للعقل.

في هذين الاحتمالين طموحات عالية الوتيرة أيضاً اضافة الى وتيرة التعقيد، فالتوغل بحساسيةٍ خلف الأحداث، وكتابة تتسم بكثافةٍ استعارية في لعبةٍ ذهنية باشرها الكاتب بتقديم ذاته الخلاقة في محاولة الهروب من التورط في حقيقة القصة ، يقدّم الصور ويؤخّرها في أمكنةٍ محدودة، عنده هنا لا ارتباط للزمان بالاشياء الحسية ، زمانٌ مطلق ، يريده واحدا ، ايا كان ادراك القارئ ، فلا يبدو الزمان الروائي مرتبطا بالحركة لكنه يشكل واقعا مستقلا عن اي واقع من وقائع الرواية ، ويمكن قول الشيء ذاته بالنسبة للمكان إذ لم يتقدّم به ناتجاً عن تجربةٍ خارجية ، لم تفرض الأحداث الخارجية التصور المسبق للمكان ، كانت شبكة من أحداثٍ سابقة تبني التركيب الروائي وحساسيته بحيث لم يعد لهما – الزمان والمكان – من وجود، من دكّة نافذةٍ باتجاه مدى السماء ، ينتظر عودة ما لا يعود ، يناوش شكَّاً بيقين ، معرّيٌّ أم غزالي أم هي مسألة الوجود بومّته والكينونة، وحول بهو البيت العربي الكبير أتقن إنكار معرفة الحقيقة ، كان ذلك كله من أجل إفساح المجال ، للإيمان.

يمثل مقام التذوق الفني ، هذياناً ونشوة ، في تقنية كتابة بارعة في شتّى حركات النص ،و من الغلاف إلى الغلاف ، وفي طريقة تقديم شيء إلى شيء ، متسقاً أحيانا ، ومتشظيَّاً أحياناً أخرى ، بعضه في إثر بعض ، كان الحدث يطلع من مكمن الذاكرة مشروعاً لرواية نصّ لقيط :
عرزال مَن يكون؟


النسَب في دلالة صور العهد القديم ، مَن يكون عرزال ؟ فإما أن يكون لاوعيه خالياً من صورة الأب الرمزي ، وممتلكاً لدرجة عالية من التجريد، وإما أن يكون الأب أصلياً وحاضراً في كل موضع من مواضع منظومته الروحية ، والعهد القديم يدل على وجود الصورتين في امتلاك الأب وترجمته ، البنية الروائية في جزئية عهدها القديم ومع صعوبة التفريق والتعقيد، تقدم عرزال شخصية غامضة مضطربة، أحجية ، يجمع لها الكاتب وسائط سفر التكوين، والألماني زوسكيند، معاً، تقطع شذراتٌ غامضة رتابة صباحاته ، سقوط الستارة، وخزانة في الممر، كتابةٌ مخيفة بضميرَي المتكلم و الغائب ، في نهاية كل صباح يطبق النافذة … يتخذ ضمير الأنا حيّز الإستعادة والاستباق والحذف والإيجاز ، ولا ينتظم في خط انتظام الأحداث ، ” كنتُ في الثامنة ص 24″ ، كنت في السادسة ص 27″، أثق بعودة زواحل والدي ، أتابع لهفة والدي واضطرابه فبل الغروب، يصادرم.أ مذكراته بلسان الراوي العليم ، تمتزج الكتابة باعتماد شكلٍ لغويّ صعب ينقل الراوي من مراقبٍ خارجي إلى مراقبٍ لذاته من الداخل على إيقاع صراع الذات مع ذاكرة مهشَّمة في ثنايا وجيوب اللاوعي المظلمة، تقول قطنة في حاشية صباح أول من صباحات منوال بن أزرق إنها لم تلحظ تغييراً في احداث صباحاته الخمسة إلا اسم الشخصية المحورية ، فارتأت باعادة قراءة بضعة سطور، العلاقة بالأب خطية وثابتة بين عرزال ومنوال والشرخ الذي يصيب عائلة البيت العربي الكبير ليست بسبب غيرةٍ بين امرأتين ، بل بموجب وهم نقلته امرأة عمياء على قدرة بصرية وقدرات خفية بأن حمام الدار لا يغيب، وقد غاب ، وأن أفعى الدار لا تخون ، والخيانة كامنة في مفاصل الأحداث ، كأنها بصيرة هذه شبحٌ بلا شكل وشيء ما من قبيل البصر، غير المباشر ، يتملك بجسدها ليقيم سلطة واهية؛ الريبة واحدة في الحب والأدب ، وقطنة في سردية ” ساعة التأمّل ” على مقولات التفكيكيّة، تنفي وجود حقيقة واحدة ، مناوشة شك ليقين ، قطنة ، لا تمنح الكاتب أيّ حلول بل تفكِّك معارفه ولغته وتغربله، وفي الشكوكية والرمزية لغة جديدة تغوص في التلاعب، سردية ساعة التأمّل لم تحافظ على الغموض ، أسقطت مقاومة البوح ، تركت بصمات واضحة في طلب اشباع الحب الملح والافتتان والاجتذاب، تفتح فطنة الباب الأساسي على مصراعيه ليدخل النص إلى عالم اللاشعور وتعيد ترتيب شيفرات كودات العهد القديم في صلب نظرية التكوين المعكوس بينهما ، عرزال ومنوال ، داخل البيت العربي الكبير على مدلول الطبقة الاجتماعية وشراء العبيد بحرّ مال المقتدرين وتماهي الهستيريا في نواح الأم وهديل الحمام ، تتماهى جميعها بعوارضها المؤلمة .
في بنية الرواية الضمنية مزيجٌ غامض على إغراء تفكيك كوداته ، نصٌّ يخفي قانون تكوينه ، لا تكمن المشكلة في أنني لم أجد معياراً للتمييز بين النظرية والقصة ، لكن هناك دائماً نظرية تؤدي الى حقيقة وقصة الى مزيد من القصص ، كل مواد حمام الدار قصص ، أودّ التساؤل عن آراء قطنة رأياً رأياً وكلمة كلمة ، فأي نوعٍ من البناء هذا ؟ كذبٌ أم يشبه الكذب ؟ أم ذريعة اعتمدها أم حقيقة مزيفة ؟ ماذا يعني حقاً حين يظهر جسد قطنة على جماله وإغرائه . ماذا يعني حقا حين تفصح عن احلام وفانتازيات في القصة التي تقدمها ثانوية ، كان الكاتب” يعتقد ” أن لا وجود لها في حياته.

*أستاذة سابقة في الجامعة اللبنانية

رابط المقال في موقع حدث أونلاين

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟