“حمام الدار” لسعود السنعوسي رواية التشظي ونار الفقد وضياع الهوية أم ماذا؟

 زينب إسماعيل

ما الذي يريد قوله سعود السنعوسي من خلال روايته “حمام الدار”؟ وما الذي يفعله سعود السنعوسي بقارئ الرواية؟

 

منذ مطلع النص يحار القارئ من أين يلتقط محار المعنى وسحره المتخفي في ثنايا السطور، أيلتقطه من غرائبية العملية السردية المتشظية، أم من هيمنة المؤثرات البصرية التي تُظلّل الرواية، بدءًا من لوحة الغلاف والعتبات النصية وصولًا إلى نهاية العملية السردية.

 

هل تقصّد سعود السنعوسي أن يرثي نظرية “موت المؤلف” لنراه يتألّه على عرش سردية روائية يستدعي من خلالها القارئ وشخوص الرواية معًا إلى غرفة صغيرة ودكة نافذة مفتوحة على السماء، يُلغي فيها معالم الزمان والمكان، يتفحّص الملامح المتوترة لشخوص الرواية في حضرته، يمنح تلك الشخصيات سمات وملامح لم تكن موجودة، يُزيل شامة من وجنة عجوز متصابية، لكنه يقف عاجزًا عن إنهاء حياة عرزال إبن أزرق تلك الشخصية المضطربة التي لم يعرف الكاتب من أين أتت، واضطرابها لم يمنعها من أن تنتفض على الراوي فلم تُذعن لقرار الانتحار الذي ارتأه لها، لكنها تقوقعت في دهاليز اليأس والعجز والكآبة، فبدت وكأنها أرادت الموت على طريقتها، أوليس العجز المفرط وجهًا من وجوه الانتحار؟ والعجز هو أولى الثيمات التي يلتقطها القارئ من خلال تكرار صوت الميم في عنوان الرواية  “حمام الدار” والميم صوت شفوي، أنفي مرقق، مجهور متوسط بين الشدة والرخاوة ومن دلالاته الخنوع والضعف تكسبه الغنة المرافقه لحنًا حزينًا. وهو ما يتوافق مع الطابع الغالب على الرواية.

 

يُحسب للكاتب أنه أدار العملية السردية المتشظية بخبث المراوغ، تحايل على مفهومي الموت و الحياة، حاول استنطاق ماهية الوجود والعدم، راوغ في إنكار الحقيقة، وأدخل القارئ في أتون نص مفكك ضبابي المعالم، لا تُعرف له بداية، ونهايته صعبة المنال، وكأنه يفتحنا على المتاهة .

 

ويُحسب للرسامة مشاعل الفيصل قدرتها الفنية على استشراف عبثية اللعبة السردية التي أرادها السنعوسي، حتى ليظن القارئ أنّ الرواية قد كُتبت وفاقًا لثنائية المسارات، مسار سردي أبدع الكاتب في تفكيك مفاصله وإعاده صوغه من جديد، ومسار تصويري أبدعت فيه مشاعل الفيصل، فبدا النسق النصي وكأنه يسير وفاقًا لثنائية الذكورة والأنوثة التي بُني عليها الفضاء الكوني. ويجوز القول إنّ لهذه الثنائية الرمزية سطوةُ القبض على مفاصل الرواية فإذا ما بترنا أحد أطرافها اختلّ المعنى وغارت الرؤية النصية.

 

يكتنز الجانب التصويري الكثير من رموز الرواية وألغازها، فتُحيلنا لوحة الغلاف إلى ماهية الشخصية في المتن السردي، فالجسد الواحد الذي يتفرع منه رأسين غارقين في شرود بعيد، يتوسطهما عيون جواحظ تتناسل حدقاتها الناتئة المرهقة بين استسلام واستنفار، والشفاه الغلاظ الخرساء، والأطراف المبتورة لا يخرج من أكمامها سوى الفراغ والعجز وقلة الحيلة، تؤثث لملامح الشخصية التي أرادها الكاتب في الرواية عرزال إبن أزرق، ذاك الكهل الخمسيني الذي اختار له االسنعوسي رتابة الصباحات الخمس المتتالية، في نصٍ لقيط، يستغرق خلاله  في ماض أليم ويعاني أزمتين، أزمة نسبه الضائع وأزمة الفقد بسبب غياب حمامتين غاليتين على قلبه أحدهما اسمها زينة والثانية رحال يظل يستحضرهما حتى نهاية النص الأول، يجلس على دكّة نافذة الدار ينتظر ما لايعود، بحسب القسم الأول من الرواية الموسوم بالعهد القديم، وهنا لم يمنح الكاتب الحمام دلالة، سوى أنّه طائر، إلا أنّه اتخذ في النص الثاني دلالة استعارية تمثّلت في صيغة الإنسان أخوة منوال وطفليه.

 

 يشهد القسم الثاني من الرواية الموسوم بالعهد الجديد تكرارًا للأحداث تكاد تكون متناسخة فيما بينها، فبدت وكأنها تُفكّك الألغاز المبثوثة في النص السابق، مع لحاظ تغيير اسم الشخصية من عرزال إلى منوال، ليكتشف القارئ أنّ عرزال ما هو إلا منوال الذي يعانى في بداية النص النسيب فقدان أمه ثم غياب والده وإخوته المتكرر، يقف على دكة نافذة الانتظارمؤمنًا إيمانًا كليًا بمقولة جدته بصيرة تلك الشخصية الإشكالية التي كانت تُكرر على مسمعه “أنّ حمام الدار لايغيب وأفعى الدار لا تخون”،  فبدت هذه الصيغة الأسلوبية وكأنها الإيقاع الضمني لجمالية النص،  ليأتي الفقد الثاني مع حادثة المرسى الشاهدة على غرق طفليه رحال وزينة، وحادثة المرسى هي الأساس الذي بُني على أساسه النص الروائي، لأنها كانت الشاهد على عملية الغياب والفقد، والشاهد على عجزه في إنقاذ طفليه من الغرق، بسبب عقدته من أزرق الأب، وخوفه من أزرق البحر. والأزرق لون الوحشة والخوف، يُحيلنا إلى ما يسمى بالحقبة  الزرقاء التي اشتهر بها  بيكاسو حين رسم كل لوحاته بما يوحيه الأزرق من مشاعر غائرة في التشاؤم، ولعل اختيار اسم أزرق  لم يكن عبثيًا في الرواية، بل أتى متماهيًا مع زرقة البحر التي تُحيل إلى القهر والجبروت والظلم، وهي الصفات التي اتسم بها أزرق الأب، يزيدها قسوة ووحشة إتيانها بصيغة التنكير وتكرارها على هذه الوتيرة في معظم المتن السردي، وهو ما ينطبق على تكرار الأسماء والصفات المنكرة، والحال ذاته نجده في العناوين المتشظية لفصول الرواية “قبل ساعة تأمل، أثناء ساعة تأمل، مشروع نص لقيط، نص نسيب، صباح  أول صباح ثاني … ربما أتت صيغة التنكيرهذه لتنسجم مع غموض الرواية وتناقضات شخصياتها المضطربة بين الشك واليقين، والمُعلقة على حافة الانتظار.

 

   ثمة ثيمات إنسانية عديدة يبثّها الكاتب في ثنايا النص، يُعلن رفضه لقضية تجارة الرقيق التي كانت سائدة في الخليج العربي في القرن التاسع عشر، والتي شكّلت أحد الظواهر الاجتماعية والسياسية التي انطوت على أقسى معاني العنصرية والتهميش وعكست صراعًا استعماريًا فضلًا عن الصراع الاقتصادي، هذه القضية الإشكالية التي مُنع الحديث عنها لسنوات في الخليج العربي، أعلن السنعوسي رفضه لها بحيلة الكاتب الحذق، حين وضع لفظة “العبدة” بين علامتي التنصيص، مرتين في النص وكأنه يُعلن براءته من جريمة العصر(أمسك بكتفي يهمس في أذني بما يشبه فحيحًا تخالطه رائحة التبغ صِح بالفتاة “يالعبدة”.. لم أقو صبرًا على احتمال الوجع في زندي تحررت منه وقت صرخت متوجهًا لابنة فايقة يا”عبدة”). وفايقة التي كانت ملك جده ثم ورثها والده أزرق مكثت في البيت سنوات طويلة قبل أن تُطرد هي وكل العبيد لسبب مجهول، ثم يعاود البحث عنها ليشتريها هي وابنتها قطنة بعد سنوات الطرد، لسبب يبقى مجهولًا، ربما لصلة ما تربطها بالنسب الضائع لعزرال، وهنا لايهم البحث عن النسب الحقيقي لعزرال، المهم أنّ ثمة خيانة زوجية قد تمت من أي جهة أتت، فكان نتيجتها ضياع النسب والانتماء لعائلة أصابها الشرخ وهيمن على بنيانها الفقد بكل ألمه الحارق وبكل وجعه المكتوم، هذا الوجع المكتوم تختزنه عبارة “يبة يبة”، حين  يطلقانها طفلا عرزال/ منوال من الأعماق بلهجة خليجية معبّرة، وهما يناشدان والدهما بانقاذهما من الغرق. (تعالت صيحات الصغيرين يبة يبة، اصفر وجهه وهو ينظر إلى غيابهما الوشيك، أراد أن يمضي وراءهما في التيه الأزرق لعله يعيدهما إلى حضنه نهض عن الأرض، وقف على أطراف أصابعه ينظر بعيدًا ابتلعتهما الزرقة..)  هذه ال “يبة يبة” تكاد تختزل هذا اللهب الذي يُخلّفه ألم الفقد والعجز معًا، لذا حين افتتح الراوي نصه السردي، كان يكتب حروف الرواية، “بكفه الملتهبة المحروقة” وكأنه تحسّس ألم الفقد قبل أوانه، وأثناء عملية كتابة الرواية (أُطلق زفرةً حرّى والحرق في قلبي.. زوجتي تحمل مرهم الحروق..تُلوّح لي بعلبة الحروق.. نسيت تمامًا التهاب كفي).

 

أيُّ حفلة جنون ونواح أرادها السنعوسي؟ وهل هذا التشظي والضياع والألم والفقد التي تضج به الرواية كان حكرًا على شخوصها فقط، أم أنّ السنعوسي قد أحسن الاستتار خلف تلك الشخصيات ليُصيب في واقعنا العربي مقتلًا، هل يجوز لنا فتح كوة إضافية في تأويل خبايا النص؟ ربما لمَ لا. وتوسيع دائرة التأويل تأخذ مقبوليتها من وجود العلامة اللغوية الدالة عليها وتعالقتها النصية.

 

والملاحظ أنّ الكاتب قد صاغ سردية عرزال إبن أزرق بكل تشظياتها المؤلمة على وقع البيت العربي القديم، هذه الصيغة اللغوية تكررت باقتضاب مصحوبة “بأل التعريف”  على خلاف استخدامه لمعظم الصفات والأسماء المنكرة  “.. في بهو البيت العربي القديم .. على سطح البيت العربي القديم.. كنت في زاوية البيت العربي القديم..”  لماذا الإصرار على ذكر نسب البيت “للعربي”، ولماذا ضاع نسب عرزال في كل مفاصل الرواية، فيما بقي نسب البيت  التي تنتمي إليه العائلة، واضحًا وضوح الشمس.

 

ما الذي يريد قوله السنعوسي ؟ هل كان يُصوّب سهامه على الواقع العربي بكل تشظياته وأزماته الملتهبة من بهو البيت العربي القديم ذاك؟ إن كان هذا بعض ما يريد قوله، ربما يتضح للقارئ حينها سِرّالعبارة التي ختم بها الرواية بقوله “لن تتم” في إشارة إلى استمرار معاناة عرزال ولهيب وجعه المستدام، ويتضح معها سر”البصقة” التي كانت تطلقها  بصيرة من وسط  ذاك الدار.

 

***

 

* قُدّمت هذه القراءة على هامش الجلسات الشهرية ل “نادي  قاف للكتاب” برئاسة الدكتورة عائشة يكن، والذي استضاف فيه الروائي الكويتي سعود السنعوسي فاستعرض مسيرته الروائية وناقش روايته “حمام الدار” في لقاء أدارته الأديبة هناء غمراوي، عبر تطبيق “زووم” في الثاني من الجاري، بحضور نخبة من الأكاديميين والروائيين العرب، وقد رأى السنعوسي أنّه كتب عن عالمه الخاص برؤية مختلفة من حيث الشكل، لافتًا إلى أنه في حمام الدار وإن حاول الهروب من موضوع الهوية إلا أنه لم يستطع التجرد منها دفعة واحدة.


رابط المقال: موقع ألف

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟