عن مرايا سعود السنعوسي التي تحطمها ساق البامبو

بقلم: لينا العطَّار





     غالباً ما يُصَنَّف الروائيون حسب نوع الروايات التي يكتبونها، فيرتبط اسمهم بنوع الأدب الذي تقرؤه لهم، فمن الطبيعي أن يخطر لك أدب السجون عندما تسمع اسمع أيمن العتوم، أو الميتافيزيقيا عندما يقال أحمد خالد توفيق، أو الرومانسية الاجتماعية عندما تقرأ اسم بثينة العيسى، ونجيب محفوظ هو الأديب العبقري الذي يكتب عن الحارة الشعبية والمجتمع المصري، لكن بعض الأدباء وهم نادرون حقاً لا تستطيع أن تضع ما يكتبونه في أي خانة..

     سعود السنعوسي أحد هؤلاء الكتّاب وأبرزهم، ورغم حداثة سنه العمرية والأدبية، إلا أنه حجز لنفسه مكانة مهمة بين الأدباء الكبار، ومكانة مميزة عند القراء الذين صاروا ينتظرون أعماله بفارغ الصبر، وأعتقد أني واحدة من كثيرين تعرفوا عليه بعد فوزه بجائزة البوكر للرواية العربية عام 2013 عن روايته (ساق البامبو) حين قررت بعدها أن أقرأ أعماله كلها التي نشرها لأكتشف أنه لم ينشر سوى رواية واحدة هي سجين المرايا، وقد يبدو هذا غريباً في زمن بات فيه النشر أمراً متوافراً وقد يكون من السهل لأي شخص كتب عبارتين على وسائل التواصل الاجتماعي أن ينشرهم في كتاب والأمثلة على هذا كثيرة، لكن الكاتب الحقيقي هو الذي يعرف قيمة الكلمة أولاً وقيمة الكتاب الذي سيحمل كلماته، ويقدّر القارئ الذي سينشر له لأنه الهدف أولاً وأخيراً بالنسبة لأي كاتب، ونحن هنا أمام كاتب يقدس الكلمة، ويجعل منها وسيلة وصول لكل شخص، بقلبه وعقله.

سجين المرايا – جائزة ليلى عثمان للرواية 2010

 

     رواية رومانسية للوهلة الأولى لكنها دراسة معمقة للنفس الإنسانية حين تحب وحين تكره..حين ترى نفسها أسوأ مافي الكون، أو أفضل مافيه..حين تقرر الخروج من قوقعتها وتكسير كل المرايا التي حولها والتي لم تعكس إلا صوراً سيئة وخاطئة عن الحياة، فكان عليه أن يحطمها ويخرج من سجنها ليرى العالم بمنظور جديد..فتكون المحاولة الأولى لهذا التحطيم فاشلة، بل تحكم السجن الذي يعيش فيه ليكون عليه أن يقوم بما لم يقم به من قبل كي يخرج هذه المرة.
لم تكن تجربتي الأولى مع السنعوسي، لكني استمتعت بها كثيراً ورأيت من خلالها أديباً فذاً وخيالاً خصباً بالأحداث والتشبيهات ومشاعر عميقة استطاع إيصالها لنا بكل براعة.

ساق البامبو 2012 – جائزة البوكر للرواية العربية 2013


     اشتُهِر من خلالها، والتي قرأها جميع الشباب، المذهل في تلك الرواية كان بساطة أسلوبها وعفويته التي عبرت عن مذكرات شاب كويتي فليبيني عاد يبحث عن والده ووطنه، فلم يجد أياً منهما.
الخدعة التي تفوق إليها متأخراً في نهاية الرواية وتظل تتساءل: هل كان الكاتب يكتب بنفسه أم يترجم مذكرات عيسى!..لتجد نفسك أمام كاتب استطاع أن يتجسد شخصيته تماماً حتى ذاب فيها..حسناً بالتأكيد يحمل كل كاتب جزءاً من شخصياته، ويضع في كل منهم بعضاً من روحه ينقلها للقارئ كجزء من الاتفاق الضمني بين القراء والكتاب، لا يمكن أن تخفي الكثير عن قارئك.

فئران أمي حصة 2015


     الرواية التي أثارت ضجة كبيرة وسُحبت ومُنِعَت من الأسواق، يمكن تصنيفها ضمن روايات الديستوبيا، والتي ترى من خلالها حاضراً ومستقبلاً مؤلماً في البلاد العربية، غصة رافقتي طيلة صفحات الرواية، اجتياح الكويت والتشابه المرعب بينه وبين الحاضر في بعض الدول العربية وبين المستقبل الذي توقعه للأبطال، لم يعطينا أي معلومة أو تلميح عن اتجاه البطل المتكلم، فقط بقي ضائعاً بين صديقين كل منهما من اتجاه، يقفان معاً في بعض الأوقات وقد تصل بهما الأمور إلى قتل أحدهما الآخر في مرات أخرى.
الفواصل الزمنية في الرواية والقدرة على التنقل بين زمن وآخر حيث أن الرواية تدور في ثلاث أزمنة متوازية بطريقة لم تربك القارئ أبداً بل كانت محكمة وواثقة جداً.

حمام الدار.. أحجية بن أزرق 2017


     حمام الدار لا يغيب، وأفعى الدار لا تخون..لكن أحياناً يغيب حمام الدار بعيداً، وتخون الأفعى وتختل كل الموازين.
هنا فاق كل التوقعات واختلت كل الموازين الأدبية عنده، كأن ذلك الكاتب المجنون في داخله في خرج وتمرد على الورق وقد حطم كل القيود الأدبية وخرج لنا برواية أقل ما يقال عنها أنها غريبة..لكنها كانت رائعة، نفس الغصة التي رافقتني في فئران أمي حصة، ونفس الألم في النهاية، لكن هنا يضاف عليه محاولة جاهدة مني طيلة الصفحات لفهم واستيعاب الأحداث والشخصيات وربطها ببعضها البعض، وهذا ما لن تستطيع فعله في النهاية، ليأخذنا خياله الواسع إلى مناطق لم نألفها من قبل ولم يسبق لنا أن نخوض فيها في الأدب العربي.
أربع روايات يتقارب الفاصل الزمني بينها، وتتباعد الحكايات ويبني لنفسه في أرض الخيال قلاعاً من أدب راقٍ، تتنوع باختلاف الفصول..أسلوب محكم لا يمكن مجاراته، وبناء أدبي عميق وصياغة متمكنة من قلم يعرف جيداً كيف تخطو كلماته على الورق بثقة عالية جداً وتماسك قلّ نظيره.
عبء ثقيل يقع على سعود السنعوسي لروايته القادمة، فالقارئ لم يتوقع منه الأفضل فقط، بل أن يفاجئه أيضاً، فلم يعد القارئ يقبل بالعادي، وهذا للأسف شرط ضمني آخر بين القارئ والكاتب سيكون على السنعوسي أن يلبيه وألا يخيب أمل القارئ، ولا أعتقد أنه سيفعل، فالتأخر في النشر بالنسبة للكاتب ثم النجاح بهذه الطريقة المبهرة، علامة تبشر بخير وتنبئ أنه اختزن الكثير ليقدمه لنا، فمازال في جعبته الكثير من الحكايا والأحاجي التي سيحكيها لنا.


المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟