أنت الإنسان

سعود السنعوسي:

 
 
أنت الإنسان
 
     كثيرة هي الأفلام التي أدمنت مشاهدتها منذ كنت صغيرا. أشاهدها بين الحين والآخر، إلى يومنا هذا، قد أندمج في مشاهدتها، ولكن، يبقى شعور المشاهدة الأولى مختلفا. قد استمتع بمشاهدة الفيلم عشرات المرات، ولكن، يتلاشى تفاعلي مع أحداثه مشاهدة بعد أخرى. أجدني اليوم أمام مشهد، في أحد الأفلام، كنت قد انفجرت ضاحكا وقت مشاهدته لأول مرة حتى سالت الدموع من عينيّ، وفي فيلم آخر، أتابع مشهدا مأساويا كان قد أحرجني بين من كان حولي، وقت المشاهدة الأولى معهم، حين بدا علي التأثر الشديد، ولكن أنوفهم الحمراء، وقت مشاهدة الفيلم، وعيونهم التي سكبت الدموع كانت تبث بداخلي شيئا من الثقة بأن الأمر، ولأني إنسان، لا يستدعي هذا الحرج.
أتابع اليوم المشاهد ذاتها، وأتساءل ما الذي تغّير؟ لقد انفجرت ضاحكا لهذا المشهد أول مرة، وضحكت في الثانية، وفي الثالثة ابتسمت، وفي الرابعة .. لاشيء. وفي مشهد آخر أبكاني في المشاهدة الأولى، وأحزنني في الثانية، أجدني اليوم أمامه بلا شعور!
ما الذي تغيّر في تلك المشاهد؟ لا شيء، أنا من تغيّر وحفظ المشهد إلى أن بات عاديا مملا لا جديد به. ولكي أنفجر ضاحكا أو باكيا، يلزمني مشهدا أشد تأثيرا من تلك التي أثّرت بي. وليس الأمر في مشاهدة الأفلام وحسب، بل ليته توقف عند ذلك من دون أن يصبح سمة الحياة التي نعيشها، فقد أصبح كل شيء عادي، كل شيء مألوف ومقبول، بل ان المدهش حقا انه لم يعد هناك شيئا يدعو للدهشة!
أجدني اليوم أمام شاشة التلفاز متابعا الأخبار متبلد المشاعر، فالمشاهد هي ذاتها التي ألفتها منذ وُلدت، لا جديد يهزّني من الداخل، ولا أنوف حمراء أو عيون تسكب الدمع من حولي. كل شي عادي، كل شيء مقبول، وما نتابعه في نشرات الأخبار مشاهد سبق لنا رؤيتها والبكاء عليها.
نحن أمّة ألِفَت الذل والهوان وتنفستهما مع الهواء، إلى أن كادا يصبحا أمرا لا نستطيع الحياة من دونه.
تبّا لنا، بل تبّا لي، ما لي لا أبكي الأُسر المشردة في المخيمات القريبة من حدود بلادها؟ نعم نعم، لقد بكيت طفلا حين تشرّدت وأسرتي بعيدا عن موطني، وبدلا من أن يجعلني ذلك أكثر من يشعر بمعاناة الآخرين، أجدني بلا مشاعر أمام مشهد مألوف. ما لي لا أبكي حال السورية التي شُرّدت مع أبنائها تبكي على شاشات التلفاز؟ لأنني بكيت الفلسطينية قبلها وليس المشهد جديدا علي. ولكن! ماذا عن حمزة؟ لِمَ لم يحرّك بي مقتله شيئا سوى دمعة علقت داخل عيني؟ نعم نعم، ليس المشهد جديدا، فقد استنفدت طاقتي بالبكاء على محمد الدرة قبل سنوات، وليس اغتيال الطفولة بأمر جديد، وليس في دموعنا حل، والذل والهوان سمة رضينا بها منذ زمن.
هكذا أنا، والعار يدّق رأسي بمطرقته، لم تعد المشاهد المتكررة تهزّني، ولولا أن رجلا أتى بمشهد جديد لما كتبت هذه الكلمات. كان رجلا يخاطب مراسل إحدى القنوات الإخبارية، وبلهجته الشامية يقول: "داسوا عـ رقبتي! .. أنا إنسان ماني حيوان .. أنا إنسان ماني حيوان"، ثم تمالك نفسه كي لا يبكي، ولكني بكيت .. وفي داخلي شيء انكسر. ويا لحزني عليك يا "إنسان" وعلى نفسي، لأني لن أبكيك من جديد، فما في داخلي انكسر، "وإللي انكسر ما يتصلّح"، إلا إذا ما طالعتنا الصحف والأخبار بمشهد مختلف، أشد قسوة، من مشاهد الذل التي اعتدناها من عدو خارجي وآخر داخلي.
هنيئا لك يا إنسان، تملك لسانا ناطقا يقول لا للذل، وتعسا لنا، نحن باقي المخلوقات، ننظر إليكم بأعيننا وألسنتنا خرساء، نبتلع صمتنا المعجون بذلّنا ولا نحرك ساكنا. أنتم تُقتلون أمامنا خلف الشاشات، ونحن، أمامها، لا يقُتل فينا سوى المشاعر.
نعم .. أنت إنسان .. أنت إنسان.

تعليقات

  1. إنسانْ...

    بتُ أتساءَل هَل نَحنُ من بَني الـ (إنسَـان) حَقاً .؟!
    أم أننا انسَلخنا من الإنسانيّة كما الأفاعي،
    ساعةَ السّحَر .؟!

    بِئسَ القَلبُ قلبي، ذاكَ الذي أومأ برأسهِ الأشعَث
    مُوافقاً مُصدقاً وشاهداً حياً، على صحَة ما ذكرته أخي..

    مَقالٌ مُتعب
    ولكن، بوركت على هذا النّضح
    لنَكتَشفَ من نَحن

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟