بيت خمسة


سعود السنعوسي:

لست أدري أعن البيت أكتب، أم عن صاحبه، أم عن باقي أفراد العائلة التي يحتضنها ذلك البيت؟ أتدرون! سأروي لكم الحكاية من البداية وحتى وقت كتابة هذه السطور بما انها لم تنته حتى هذه الساعة. وأسأل الله ألا ينهيها أبدا.
عرفته كما كان يعرفه غيري، كاتب في صحيفة يومية، طبيب وناشط سياسي كما هو مكتوب في تذييل زاويته في الصحيفة التي كان يكتب بها. كان هذا كل ما أعرفه عنه قبل أن ألتقيه، وقبل أن يصبح من الشخصيات التي أثرت تأثيرا إيجابيا مباشرا في حياتي. يمتعني أحيانا بالأفكار التي تحويها مقالاته الفكرية والأدبية، ويزعجني أحيانا أخرى، بل ويقلق راحتي بمقالاته السياسية، ويرعبني صوت النواقيس التي يدقها من خلال تلك المقالات التي تتحدث عن المخاطر التي تحيق بمستقبل بلادي.. عفوا، سوف لن أعكر صفو هذه الصفحة بالحديث عن السياسة، فلا مكان لها هنا كما هي الحال في البيت الذي أرغب بالكتابة عنه، حيث يشنق أفراد العائلة همومهم السياسية على أسواره من الخارج قبل أن يدخلوه. أعود لحكايتي، ذات يوم أخبرني أحد أقربائي عن مجموعة قراءة، كان يعتقد بأنها ستضيف لي شيء ما، وذلك لعلمه بخصوصية العلاقة التي تربطني بالكتاب. وفي محاولة منه لانتزاعي من عزلتي مع كتابي، ولمساعدتي بالعثور على من هم يشاركوني نفس الاهتمامات جاء ذلك الاقتراح. كان هو – كاتبنا وطبيبنا وناشطنا السياسي إياه – قائد تلك المجموعة ومؤسسها. التقيته ومجموعته في المرة الأولى في أواخر عام 2006 في إحدى المكتبات العامة حيث كانوا يعقدون إحدى جلساتهم الأسبوعية. أعجبني أسلوبهم في إدارة الحوارات ومناقشة الكتب، وإصرارهم على متابعة نشاطهم رغم واقعنا الثقافي المحبط. استمر نشاطهم بقيادة ذات الشخص الذي كان همه في البداية هو الاستمرار، فقد كان يحمل مجموعته معه من مكان إلى آخر. لا يحتاج لشيء سوى مكان يستوعب مجموعته الصغيرة ليعقدوا فيه جلساتهم الأسبوعية. تجدهم أحيانا في مكتبة عامة، أو في قاعة صغيرة بإحدى المكتبات التجارية، وأحيانا أخرى في قاعة في مؤسسة يمتلكها أحد أصدقائه.
كان لا يستقر في مكان، كبائع الآيس كريم الذي يدفع عربته أمامه وينادي: "بررررد بررررد". يحمل أفكاره وأعضاء مجموعته معه من مكان إلى آخر، يروّج لبضاعته دون مقابل: "ثقاااافة .. أدب .. إبداااع". وإذا كان بائع الآيس كريم يطفئ شيئا من حرارة الصيف بواسطة ما تحتويه عربته، فان تلك الشخصية تشعل - بما لديها من أفكار - شموعا في العقول المظلمة، وتضاعف من أعداد تلك الشموع في العقول المستنيرة. وإذا كان بائع الآيس كريم يناولك قطعة من بضاعته نظير مبلغ من المال، فصاحبنا يوقد لك شمعة مقابل أن توقد له أخرى تنير له زاوية مظلمة، لتبدو رؤيته أكثر وضوحا، فهو لا يرغب بشيء أكثر من ذلك، يعطيك فكرة ويأخذ منك فكرة.
استمر على هذا الحال إلى أن أوقف نشاطه ذات صيف على أن يعود حاملا معه شيئا جديدا. لم تكن تلك الجهود الذي كان يبذلها في السابق مع أعضاء مجموعته سوى القواعد والأساسات التي سيقيم عليها مشروعه.. البيت الذي طالما حلم به.
بعد عدة أشهر من تعليق النشاط عاد ليعلن لأعضاء المجموعة عن افتتاح بيته الثقافي الذي أطلق عليه اسم "بيت خمسة"، وبدلا من الاكتفاء بنشاطه القديم مع مجموعة القراءة عمل على إضافة أنشطة جديدة في ذلك البيت، منها ناد للسينما لمناقشة الأعمال السينمائية الهادفة، وناد للمقال الصحفي، وناد ثقافي خاص بالفتيات، ومجموعة قراءة للسيدات، بالإضافة إلى إقامة الدورات والمحاضرات وورش العمل والعديد من الأنشطة الثقافية غير الهادفة للربح، فبيت خمسة هو مركز وصالون ثقافي تطوعي غير ربحي.
أكتب عن البيت بصفتي أحد أعضائه، ومن واقع تجربتي أقول بأنني تعلمت في ذلك البيت الكثير مما لم تعلمني إياه الحياة خارج أسواره. فالانكباب على قراءة الكتب - كما اتضح لي - والاهتمام بالثقافة سببان غير كافيين للنهوض بمستوى التفكير ان لم نشارك من هم حولنا أفكارنا، أو ان اكتفينا بالثقافة لأنفسنا دون الإيمان بأهمية نشرها.
أمر آخر لا يمكنني إغفاله في هذا الموضوع، فالحديث عن البيت وصاحبه لا يكتمل إلا بالحديث عن باقي أفراد العائلة، أعضاء بيت خمسة. يضم البيت توليفة من الأعضاء الذين يجمعهم حب الكتاب، وكل مصدر من مصادر الثقافة، رغم اختلاف أعمارهم وشهاداتهم العلمية وانتماءاتهم السياسية ورغم اختلاف مذاهبهم وأصولهم. فكل تلك الأمور لا أهمية لها داخل البيت، فالمهم هو اكتساب أفكار جديدة مفيدة من شأنها أن توقد شمعة تنير زاوية مظلمة أو تمهد طريقا وعرا يؤدي إلى مكان ما يتفق عليه الجميع، فكرة من شأنها أن تحدث تغييرا إيجابيا أيا كان مصدرها. فهل من أمر أجمل من أن نرى أولئك الذين يختلفون في كل شيء يجمعهم شيء واحد؟ انه لمثال رائع يضربه لنا بيت خمسة كمشروع وطني يهدف لنشر الثقافة بين أبناء المجتمع، ذلك المشروع الذي يبلل بماء الثقافة أرضنا التي جففتها همومنا السياسية واختلافاتنا وخلافاتنا البغيضة.
أعود مرة أخرى لصاحب البيت، الذي لم أذكر اسمه حتى الآن. أعتقد أن القارئ قد تعرف عليه منذ السطور الأولى لهذا المقال، ولمن لم يتعرف عليه، أقول، هو الدكتور ساجد العبدلي، الكاتب الصحفي، وهو من الكتاب القلائل الذين ليسوا كغيرهم ممن اكتفوا بالكتابة واضعين رجلا على رجل خلف مكاتبهم، بل هو من أولئك الذين أقرنوا الأفعال بالأقوال، وعملوا على ترجمة كلماتهم المكتوبة لتصبح أفعالا تساهم بشكل أو بآخر في خدمة مجتمعهم.
جمعت من الإنترنت صور لمجموعة من الأدباء والمفكرين الذين تمت مناقشة أعمالهم في بيت خمسة، لأزين بصورهم صفحتي هذا الشهر، ولم أتردد أبدا بوضع صورة للدكتور ساجد بين صور أولئك المبدعين، لأنه، ومن خلال بيته، بيت خمسة، استضافهم بطريقة ما، وجعلنا نقترب منهم ونجالسهم، ونتعرف عليهم وعلى أعمالهم أكثر وأكثر.
وأخيرا، لعشاق الكتاب والمهتمين بشؤون الثقافة.. للتعرف أكثر على بيت خمسة، وسبب تسميته بهذا الاسم، ولمعرفة المزيد عن نشاطات البيت، أضع هذا العنوان بين أيديكم www.bait5.com علنا نساهم بشكل ما بإيقاد شمعة أو تمهيد طريق نحو مجتمع واع يؤمن بأهمية ثقافة الحوار واحترام الرأي الآخر.



نشرت في:
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟