سر المريض الراقد تحت الغطاء الأخضر!


سعود السنعوسي:

في يوم صيفي شديد الحرارة، تمكنت الشمس بتحالفها مع حبات الغبار العالقة بين الأرض والسماء من أن تبقيني حبيسا في المنزل. أخذت أبحث عن شيء غير اعتيادي لأشغل به نفسي في ذلك اليوم الذي كان يوم عطلة. لست من المهتمين بمشاهدة التلفزيون كثيرا، ولكن في ذلك اليوم الممل وجدتني مرغما على ذلك. أسندت ظهري على تاج السرير الخشبي وأخذت أعبث في جهاز الريموت كنترول باحثا عن برنامج أقضي وقتي بمتابعته بعد أن أجلت كل مشاريعي في ذلك اليوم بسبب سوء الأحوال الجوية. توقف إصبعي عن ضغط أزرار الريموت بعد أن شد انتباهي برنامج على إحدى القنوات العالمية. كان المشهد الذي توقفت عنده يُصوَّر في غرفة عمليات بإحدى المستشفيات الكبرى – كما كان يبدو – في إحدى الدول الأجنبية. يصور المشهد مجموعة من الأطباء والمتخصصين وهم يجرون عملية جراحية لشخص ممدد تحت قطعة من القماش الأخضر، لا يظهر من جسده سوى جزء صغير جدا لم أتمكن من تحديد تفاصيله. بينما كان الأطباء منهمكين في إجراء العملية كنت أنا منهمكا بمتابعة كل شيء في تلك الغرفة، ما عدا العملية الجراحية رغم انها كانت الأهم في ذلك البرنامج، بل انها كانت السبب الرئيسي للتصوير. أثناء تأدية الأطباء عملهم، تنقلت كاميرات البرنامج إلى أماكن مختلفة في المستشفى، وبينما هي كذلك كانت كاميرات ذاكرتي تنتقل بي إلى مستشفيات بلادي التي عفى عليها الدهر. عادة إذا ما رغبت في المقارنة بين شيئين، أبدأ أولا بالبحث عن أوجه الاختلاف، وما يتميز به الشيء عن الشيء الآخر، ولكن، في حالتي تلك كنت قد أجهدت نفسي في البحث عن وجه واحد للشبه دون أن أعثر على ضالتي تلك.
بينما كنت مشدوها لأبرز السمات التي تميز بها ذلك المبنى كالنظافة والتنظيم وروعة البناء، شعرت بمدى قصر نظرتي، حيث كنت منبهرا لروعة المبنى وأقسامه وممراته، متجاهلا دون قصد أولئك الذين يحيطون بالمريض، أحدهم يحمل مشرطا والآخر ينظف مكان الجراحة، وآخرون لست أدري ما هو عملهم سوى ذلك الذي كان يخرج بين الحين والآخر ليطلع أهل المريض على آخر مستجدات العملية. وجدت أن جوهر الاختلاف والسمة الأساسية التي تميزهم عما نحن فيه لا يكمنان في جمال وروعة البناء والتنظيم والنظافة فحسب، بل هو الصدق الذي يميز عملهم والإنسانية التي يميزها الضمير.
بهت المشهد أمامي شيئا فشيء، لتختفي الصورة من على الشاشة بعد ذلك، وشرعت ذاكرتي بعرض مشاهد أخرى لا صلة لها بتلك الشاشة على الإطلاق. عادت بي الذاكرة إلى زمن آخر:
كانت ذراعه منتفخة بصورة تشي بحدوث خطأ ما. دخلت الممرضة لتكتشف الخطأ دون أن يبدو ذلك على وجهها. أخرجت إبرة المغذي لتغرسها في وريده بعد أن كانت مغروسة خارج الوريد لمدة طويلة! أحاول أن أطرد تلك الذكريات بتركيزي على شاشة التلفزيون. أنجح في ذلك دقيقة أو دقيقتين، ثم تقوم غرفة العمليات التي كنت أشاهدها على الشاشة أمامي بتحفيز الذكريات وتنشيط الذاكرة مجددا:
كان أحدهم يعاني من آلام في جهة ما من ظهره. أجرى عملية جراحية ناجحة خلصته من تلك الآلام، ولكنه فقد قدرته على المشي. وفي إحدى المصحات في الخارج حيث يرقد الآن، أظهر تقرير الأطباء بأن عصبا قد تم قطعه أثناء العملية الجراحية التي قام بها أفقده قدرته على المشي!
مالي أعذب نفسي بمتابعة هذا البرنامج؟! وقبل أن أنتقل إلى قناة أخرى استوقفتني تلك التي تقف عند باب غرفة العمليات، تقضم أظافرها تارة وتطرقع أصابعها تارة أخرى، بينما كان الأطباء يجرون العملية لزوجها أو أحد أقاربها كما كان يبدو. تذكرت تلك التي كانت قد مرت بمثل تلك التجربة. كانت قد رافقت والدتها التي أجرت عملية إستئصال ناجحة للمرارة قبل عدة سنوات في إحدى مستشفيات البلاد. كان الأطباء قد عجزوا عن تشخيص حالتها هنا بعد استئصال المرارة، فقررت السفر للخارج. كانت تنتظر عند الباب الغرفة، بينما كانت والدتها في غرفة التشخيص مع مجموعة من الأطباء والمتخصصين. كان التوتر قد بلغ منها مبلغا ظهر على أطرافها المرتعشة. خرج الطبيب باسما ليخبر الفتاة بأن والدتها لا تعاني من شيء سوى التهاب في .. المرارة!
حاولت أن أفرغ رأسي من تلك الحكايات، حاولت أن أواصل متابعة البرنامج دون أن أترك مجالا للمقارنة بين أمور هي ليست من شأني. كان ذلك قبل أن تعتريني مشاعر مختلفة. قبل أن يحمر وجهي خجلا أو حزنا أو غضبا، حين انتبهت فجأة، وليتني لم أفعل، إلى شعار القناة ذو الأحرف الخضراء، لأدرك بأن كل ما كنت أشاهده كان عبر قناة "أنيمل بلانت". وما كادوا يرفعون الغطاء الأخضر عن ذلك الذي احتشد من حوله الأطباء ومساعديهم حتى ظهرت من تحته كتلة يكسوها الشعر، أصبت بالدهشة ما ان علمت بأن تلك العملية ما كانت سوى لكلب كتب له الله أن يحيا بين أناس يعملون بصدق وضمير.
بعد وقت قصير، عانقت المرأة التي كانت تنتظر في الخارج كلبها، والأطباء سعداء من حولهما، والأهم من ذلك هو أن الكلب قد استعاد عافيته دون أن يُقطع له وريد أو يُستأصل جزء سليم من جسده. أما أنا، فقد ضغطت بأسناني على شفتيّ، ثم ضغطت على زر الريموت كنترول الأحمر، بعد أن أصبح وجهي في مثل لونه، حتى لا أشاهد المزيد مما يجعل بشرا كرمهم الله بكل شيء يحسدون كلبا على روحه التي تساوي، بل هي أغلى من أرواح بعض البشر!
وحسبنا الله ونعم الوكيل.

نشرت في:
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟