نضج السنعوسي في «أسفار مدينة الطين»
بقلم: علي الصُباح
![]() |
رسم الفنان: عمران |
قرأت الجزء الأول من رواية «أسفار مدينة الطين» فور صدورها في صيف 2023. لكنني قرّرت حينها التوقف عن مواصلة القراءة حتى يصدر الجزء الثالث، خشية أن تطول المدة بين الأجزاء وأنسى تفاصيل الأحداث، مما قد يضطرني إلى إعادة قراءة الجزأين من جديد. أعدت ترديد هذه العبارة في كل مرة يُفتح فيها النقاش حول الرواية، وغالبًا ما كنت أسمع الآخرين يردّدون أن عليّ استئناف القراءة، مؤكدين أنها -بحسب وصفهم- أفضل ما كُتب في الرواية الكويتية.
وبعد مرور عامين، عدت أخيرًا إلى الرواية، ولاحظت بالفعل عدة عوامل تدفعها لتتبوّأ هذه المكانة وتستحق هذا التقدير، فهي ثمرة مكتملة تجلّت فيها ملامح النضج الفني والإبداعي الذي بلغه سعود السنعوسي، لتغدو عملًا روائيًّا متكاملًا يرسّخ مكانته في المشهد الأدبي الخليجي والعربي.
نظرية الروايات الخمس
يُعد الروائي براندون ساندرسون من أبرز من قدموا دورات الكتابة الإبداعية على منصة يوتيوب، وقد اشتهرت دورته بنصائحه العملية والمباشرة للكتاب المبتدئين. من بين أهم توصياته ضرورة كتابة خمس روايات كاملة قبل التفكير في النشر، كما فعل هو قبل نشر روايته الأولى. يطلق ساندرسون على هذه النصيحة «كتبٌ للإتلاف» (Throwaway books)، ويقصد بها روايات تُكتب لغرض التدرّب فقط، أي بهدف صقل المهارات المؤسِّسة حتى يتمكن الكاتب من إتقان خلق الشخصيات وبناء عالم سردي متماسك، وصياغة حوارات واقعية، وابتكار حبكة جذّابة. فالكتابة في النهاية مثل أي حرفة يلزمها كثير من الممارسة حتى تتقنها.
أما سعود السنعوسي، فقد كتب بالفعل خمس روايات قبل «أسفار مدينة الطين»، لكنه لم يتخلّص منها، بل نشرها جميعًا. وهذا ما يمنحنا الفرصة لتتبع تطور أدواته السردية والنضج الذي وصل إليه قلمه وما بلغته تجربته. وقد أضاف نشرها شيئًا لن يتوفر لو أنه احتفظ بها في الأدراج، وهو الخبرة التي اكتسبها مع الرقابة.
ثلاث قصص
تتشكّل الحكاية في رواية «أسفار مدينة الطين» ضمن بنية دائرية تتقاطع فيها ثلاث قصص زمنية متباينة، لكنها مترابطة. تبدأ القصة الأولى بتوثيق أحداث حرب الجهراء عام 1920، بين الكويت وجماعة «إخوان من طاع الله»، وتحضر هذه الحرب خلفيةً تاريخية. أما القصة الثانية، فتجري في الزمن ذاته، لكنها تنقلنا إلى عالم أكثر حميمية، حيث تدور حول علاقة «سليمان» بحبيبة طفولته «فضة»، إلى جانب سرد حياة «سعدون» و«خليفوه»، وهما شخصيتان معاصرتان تعانيان من التهميش الاجتماعي. ثم تأتي القصة الثالثة، التي تقع أحداثها في عام 1990، وتتمحور حول شخصية «الشايب» الذي يمد الكاتب
«صادق بوحدب» بسلسلة من الحكايات، ويشجعه على تحويلها إلى عمل روائي.
فنتازيا متحفظة وكاملة
يمكن تصنيف «أسفار مدينة الطين» ضمن أدب الواقعية السحرية، إذ تنسج أحداثها في عالمٍ مألوف يشبه واقعنا، لكنها تنطوي على عناصر فانتازية دقيقة، تتقبلها الشخصيات بوصفها جزءًا طبيعيًّا من حياتهم اليومية. من أبرز هذه العناصر وصف «الصاجَّات» أو «الصادقات» (عرّافات استلهمهنّ الكاتب من أغنية شعبية)، حيث يُقال إنهن يمتلكن قدرة على الطيران باستخدام سعف النخل، إلا أننا لا نراهنّ يحلقن فعليًّا، بل يحملن السعفة أينما ذهبن لإخفاء آثار أقدامهن التي تشبه حوافر الحمار، وهي بدورها تظل مخفية تحت ثيابهن الفضفاضة. ويُشاع أيضًا أنهنّ بلا ظل، لكن حين يلاحظ الأطفال ظلالهن، يسارعن في المشي، فترد الصاجّات بأن ما يرونه ليس إلا ظل العباءة.تبلغ الفنتازيا ذروتها في «يوم السديس»، وهو يوم غريب يقع بين الخميس والجمعة، وتدخل فيه الصاجَّات لممارسة طقوس خاصة لا تحدث في أي يوم آخر. أما في الجزء الثالث من الرواية، فتتجلى الفانتازيا بشكلٍ أكثر وضوحًا، حين تنتقل الشخصيات عبر الزمن بين عامي 1920 و1990 من خلال «التبّة»، وهي الغطس في البحر.
هذا المزج بين الواقع والأسطورة يمنح الرواية طابعها الفريد، حيث تتداخل اليوميات المألوفة مع الغرائبيات بسلاسة، دون أن تفقد القصة صلاتها.
الإيهام بالواقع
يحرص السنعوسي على إقناع القارئ بحقيقة شخصياته. ففي «ساق البامبو» بدأ الرواية بزعم أنها ترجمة للسيرة الذاتية التي كتبها «هوزيه مندوسا» بطل الرواية الفلبيني. أما في «الأسفار» فينتقل إلى مستوى أكثر تعقيدًا من التخييل، إذ يستهل الرواية بمقتطفات من يوميات الكاتب المتخيل «صادق بوحدب»، الذي يزعم أنه استقى قصصه من رجل مسن «الشايب» لقنه إياها، كما لو أنه ينبهنا أنها ليست من بنات أفكاره تمامًا. وتزداد هذه الحبكة تشابكًا حين نعلم من اليوميات أن «صادقًا» تعرض للمقاضاة من أحفاد الشخصيات المذكورة، ما يوحي بوجودهم الحقيقي خارج النص، ويعزز وهم الواقعية.
وفي الجزء الثاني، تتصاعد اللعبة السردية حين يزور شخص غريب مكتب «صادق بوحدب» طالبًا نسخة من الجزء الثاني من الرواية، ويكتشف أن أحداث حياته تتطابق تمامًا مع ما ورد في النص، رغم أنه لم يقرأه بعد. هذه المفارقة تزرع الشك في ذهن الكاتب نفسه حول مصدر القصص، وتدفعه لإعادة التفكير في حقيقة ما رواه له «الشايب»، وكأن الرواية بدأت تتسلل إلى الواقع، أو أن الواقع نفسه يتكشّف عبر الرواية.
تقنيًّا، يمكن عدّ هذا الأسلوب امتدادًا لفكرة الأدب بوصفه محاكاة للطبيعة والحياة، كما تصوّرها الفلاسفة الكلاسيكيون. ويعزّز هذا التوجّه ما نجده في هوامش الرواية من تعليقات منسوبة إلى محرر وزارة الإعلام، يعترض فيها على بعض العبارات، عادًّا إياها مسيئة أو خادشة للحياء، مما يضيف طبقة نقدية داخل النص نفسه، ويحوّل الرواية إلى مرآة تعكس علاقة المجتمع ومؤسساته بالكتابة، والرقابة.
الرقابة: كلاكيت ثاني مرة
تعرضت رواية «فئران أمي حصة» للمنع، وقد تحدّث السنعوسي في عدد من لقاءاته عن الصعوبات التي واجهها للحصول على فسح لها، في تجربة كشفت حجم المعاناة التي قد يواجهها الكاتب في ظل الرقابة. وعندما نقرأ «أسفار مدينة الطين»، نجد أن هذا الهاجس لا يزال حاضرًا، إذ يتجلى صوت الرقيب -كما رأينا- في هوامش الرواية، حيث تُرفَق بتعليقات صادرة عن وزارة الإعلام، وأحيانًا تُطمس جمل كاملة بقرار رسمي، ما يخلق شعورًا دائمًا بأن النص خاضع لوصاية خارجية.
نجح الكاتب في نقل شعور الوقوع تحت وصاية الآخر، سواء كان رقيبا رسميًا أو أحد أفراد المجتمع الذين يسميهم في الرواية «حراس الغبار»، أولئك الذين يمكنهم، بسبب ضيق أفقهم، تكبيل الإبداع وافتراض أسوأ النوايا من الكاتب. لكننا نرى في شخصية الكاتب «صادق بوحدب» نوعًا من التحدي للرقيب، فهو قد اختار المواجهة بدل المساومة، ورفض أن يكتب وفق ما يرضي الرقيب أو ينسجم مع توقعاته. هذا التحدي كلّفه منع روايته من النشر، بل امتد الأمر إلى منعه من الكتابة في الصحف، في إشارة واضحة إلى الثمن الذي يدفعه الكاتب حين يتمسك بصوته الحر.
كان بعض الكتّاب المعاصرون لـ«صادق بوحدب» يحرصون على كسب رضا الرقيب، فيبادرون إلى عرض أعمالهم عليه قبل النشر، منتظرين منه أن يحدّد ما ينبغي حذفه، فيقومون بذلك بأنفسهم، وبكل طواعية. هذا السلوك أثّر سلبًا في المشهد الأدبي، إذ أصبح الرقيب يتعامل التعامل ذاته مع الأجيال التالية من الكتّاب، متوقعًا منهم القدر نفسه من التنازل، وكأن الإبداع لا يُسمح له أن يتجاوز ما ارتضاه من سبقهم.
ينتمي سعود السنعوسي إلى فئة الكتّاب الذين رفضوا الخضوع لسلطة الرقيب، وواجهوا المنع بصلابة. فقد خاض معركة طويلة إثر حظر روايته «فئران أمي حصة»، انتهت باللجوء إلى القضاء، حيث صدر حكم قضائي بفسح الرواية، وهو الحكم الذي بات يتصدّر الصفحات الأولى من طبعاتها الحديثة، علامةً على انتصار الكلمة الحرة.
ولم يتوقف أثر هذا الحكم عند حدود الرواية وحدها، بل امتد ليشكّل سابقة قانونية استفادت منها أعمال كويتية أخرى تعرّضت للمنع ثم أُفسح عنها لاحقًا استنادًا إلى الحكم ذاته. بهذا، تحوّلت تجربة سعود إلى نقطة تحول في العلاقة بين الأدب والرقابة، وأصبح صوتًا يمثل تحديًا جماعيًّا.
ومن خلال شخصية «صادق بوحدب»، الكاتب الذي يكتب في الثمانينيات بروح التمرد، يبدو سعود وكأنه يعيد تشكيل التاريخ كما ينبغي له أن يكون، بوصفه تاريخًا لا يُكتب تحت وصاية، بل يُستعاد عبر الكتابة الحرة التي ترفض أن تُختزَل في ما يرضي الرقيب أو ينسجم مع توقعاته.
في الختام
من أبرز التطورات التي يمكن رصدها في هذه الرواية هو لغة السنعوسي، إذ استطاع أن يماهي ببراعة بين الفصحى والعامية داخل الحوارات، في تمازجٍ يعكس حيوية الشخصيات وواقعها الاجتماعي. واللافت أيضًا، أنه من الكتّاب الذين لا يكتفون بالكتابة عن بيئة ما، بل يسعون إلى معايشتها بكل تفاصيلها، إما بالانتقال إليها فعليًّا، كما حدث حين سافر إلى الفلبين أثناء كتابة «ساق البامبو»، أو باستحضارها إلى حياته اليومية، كما حدث حين ربّى البلابل خلال إنجازه رواية «حمام الدار». وفي «أسفار مدينة الطين»، يتجلّى هذا التورّط المعرفي والوجداني في بحثٍ امتد لتسع سنوات، مكّنه من الغوص في الزمن القديم للرواية، واستحضاره بروح أصيلة تبحث عن المعلومة وتعيشها.
الرواية تحمل أيضًا بصمات من أعماله السابقة، مثل إعادة استخدام اسم عائلة «الطاروف» من «ساق البامبو» مجددًا، واستدعاء شخصية «شريفة» من «فئران أمي حصة» لتأخذ مساحة أوسع، كما يعيد توظيف تقنية «ما وراء السرد» (الميتافكشن) التي سبق أن جرّبها في «حمام الدار»، وهي تقنية تمنح الشخصيات صوتًا مستقلًّا يتجاوز سلطة الراوي. أما الرقيب، الذي كان خصمًا صامتًا في رواياته السابقة، فقد قرر السنعوسي أن يمسخه ويحوّله إلى شخصية هامشية، تاركًا للقارئ حرية الحكم عليها، وكأن الكاتب يعلن نهاية وصايته، ويغلق بذلك ملفات قديمة كانت تؤرقه.
تجدر الإشارة إلى أن السنعوسي أعلن، في بداية سبتمبر، عن مسرحية بعنوان «ليلة إعدام الخيَّاط». وهي تجربته الثالثة مع الكتابة المسرحية بعد «نيو جبلة» و«مذكرات بحار»، اللتين عُرضتا على خشبة مسرح مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي دون نشرها في كتاب. وفي هذا العمل، يبتعد سعود كذلك عن رواياته السابقة شكلًا ومضمونًا، بينما تظل «كائنات» التشكيلية مشاعل الفيصل حاضرة لتمنح العمل روحه المعتادة من هذا الثنائي الناجح.
يكرر السنعوسي في لقاءاته أن تاريخ الكويت لم يُخدم روائيًّا، وقد نجح في هذه الرواية في خدمة ذلك التاريخ وتخيّله عبر توظيف الأساطير الشعبية من خلال شخصيات مفعمة بالحياة في قصة شيقة تحلّق بقارئها عاليًا في سماء الإبداع.