لماذا أحبَّ العراقيون «فئران أمي حصة»؟
بقلم الروائي العراقي أزهر جرجيس
منذ صدور روايته الأولى «سجين المرايا»، ثم «ساق البامبو» الحائزة
جائزة البوكر العربي 2013، فـ «حمام الدار»، حجز الروائي الكويتي سعود السنعوسي مكاناً
مميزاً في وجدان القارئ العراقي. غير أن روايته «فئران أمي حصة»- دار ضفاف 2014، حازت
مكانة استثنائية لديه، تجاوزت الإعجاب الفني إلى التماهي الشعوري العميق، حتى ليبدو
لهذا القارئ أنها كتبت عنه وحده لا عن غيره، أو أنها انبثقت من ذاكرته هو قبل أن تخرج
من ذاكرة كاتبها.
ولعل السر في ذلك أن هذه الرواية، رغم سحنتها الكويتية الواضحة،
لا تنتمي إلى جغرافيا واحدة، بل تمسُّ جُرحاً عربياً مشتركاً، من خلال تسليطها الضوء
على «الطائفية»، ذلك الشرّ السائل العابر للحدود بلا جواز ولا ڤيزا.
حين قرأ العراقيون هذه الرواية، وأنا واحد منهم، لم يشعروا بأنهم
يطالعون سرداً عن الآخر، بل وجدوا أنفسهم في قلب الحكاية، كأنهم مَنْ كتبوها، أو مَنْ
عاشوا أحداثها.
تفاصيل الطفولة المُختلطة بين «صقر» و«كتكوت»، والحي المُتداخل طائفياً،
والأم «حصة» التي تُنذر من قدوم الفئران، كُلها عناصر بدت لنا مألوفة جداً، ليس بوصفها
رموزاً اجتماعية، بل لأنها جزء من الذاكرة العراقية التي بدأت تتآكل منذ نهاية السبعينيات،
ثم دخلت طور التآكل الفعلي مع الحرب العراقية- الإيرانية، فغزو الكويت، فالحصار، فالسقوط
الكبير عام 2003، وما تلاه من انفلات كامل للهويات المذهبية.
هذه الرواية، بالنسبة للمتلقي العراقي، كانت مرآة لا انعكاساً. لم
يكن بحاجة إلى شروحات أو مقارنات، لأنه يعرف هذا العالم جيداً. يعرف كيف يتحوَّل الجار
إلى خصم، والطفل إلى ناقل للكراهية، والمجتمع إلى ساحة اختبار أخلاقي لا ينجو فيه الكثير.
لذلك وجد في «فئران أمي حصة» صدقاً نادراً، إذ لا تُدين أحداً، ولا تبرِّئ أحداً...
فقط تسرد، وتفتح أبواب الأسئلة.
أما أكثر ما شدَّ القارئ العراقي، برأيي، هو تعامل الرواية مع لحظة
غزو الكويت. ففي حين اعتادت الأعمال الخليجية تناول هذا الحدث بحمولة شعاراتية، أو
غضب موجَّه، جاءت مقاربة السنعوسي مختلفة: لا إنكار للغزو، ولا تبرير له، لكن أيضاً
لا تجريد للحكاية من تعقيداتها.
رواية السنعوسي، ببساطة، تحاول أن تفهم، لا أن تحاكم... وهذه نبرة
طالما افتقدها العراقي في نظرة الآخرين إليه، لا سيما فيما يخص تلك اللحظة المشؤومة
التي لطَّخت صورة العراق ـ شعباً ـ في الذاكرة الخليجية، بل والعربية بشكلٍ عام.
أما «الفئران»، فكانت رمزاً مركزياً لم يُخطئ العراقي في قراءته،
حيث اعتاد أن يرى الطائفية كعدوى تتسلل بصمت من الشقوق، وتنمو في الظلمة.
تقول الرواية: «بعضُ الأورامِ لا يكفُّ نمواً إلا بموت الجسد»، وهذه
جُملة لا تُقرأ بوصفها استعارة، بل كتشخيص واقعي لتجربة عراقية طويلة مع الورم الطائفي
الذي لم تُجدِ معه كُل محاولات التجميل، أو التبرير. وحتى حين توهَّم العراقيون أن
زمن الفتنة قد ولَّى، كانت الفئران تختبئ في الجحور، بانتظار لحظة الضعف. لذلك، فإن
القارئ في العراق لم يتعامل مع «فئران» السنعوسي كرمزٍ متخيَّل، بل ككيانٍ حقيقي عاش
معه، ونجا منه مراراً.
شخصيات الرواية أيضاً لم تبدُ بعيدة، فصقر وكتكوت صديقان من زمن
البراءة، تماماً كما في حكايات الطفولة العراقية، قبل أن يفرِّق بينهما اسم العائلة
أو طريقة الصلاة. أما الأم (حصة)، التي تشتم رائحة الطاعون قبل الآخرين، فتذكِّر العراقيين
بأمهاتهم اللواتي كُنَّ يشممن الفتنة في الهواء، ويحاولن صون الأبناء منها بالحُب والمواعظ،
لكن أحداً لم يكن يصغي. تقول الرواية: «لا يُخلِّف الهدمُ إلا حجارة لا تصلح للبناء»،
وهي عبارة تصلح لوصف ما بقي من العراق بعد عقود من التصدُّع.
الأسلوب السردي بدوره كان
عاملاً في هذا التماهي. السنعوسي ههنا لا يقدِّم دروساً في الوطنية، ولا يصوغ خُطباً
عن التسامح، بل يروي، ويدع الشخصيات تتكلَّم، ويمنح القارئ حُرية الإدانة أو التعاطف...
هذا ما منحه مصداقية عالية، خصوصاً عند العراقي الذي اعتاد أن يُكتب عنه بعيون الآخر،
لا بصوته. ولعل هذا ما جعل جُملة مثل: «أنتم لا تبكون موتاكم، أنتم تبكونكم بعدهم»،
تجد طريقها إلى قلوبنا، لأنها ببساطة لا تحتاج إلى شرح.
«فئران أمي حصة» ليست رواية عن الكويت، بل عن المنطقة كُلها، وعن
زمن مشترك تفكَّكت فيه المجتمعات من الداخل... رواية فيها عدالة شعورية، وجرأة فكرية،
وحزن لا يعتذر. لم تنحز للعراقيين، ولم تنحز ضدهم أيضاً، وكأنها تقول، من دون مباشرة:
نحن أبناء هزائم واحدة، وعليكم أن تسمعوا القصة كاملة، لا ما قِيل بالنشرات.
«فئران أمي حصة» رواية عراقية من حيث لم تقصد، وخليجية من حيث لا
تتنازل، وإنسانية بقدر ما نحتاج جميعاً أن نكون.