كأنما قُدِّر لهم الموت.. كي تحيا القضية في ضمير العالم أبدًا!


     يقف المرء حائرًا أمام ما يجري، عاجزًا عن الفهم والتعبير يسوطه الحزن والغضب وذل العجز وتأنيب الضمير، حتى وهو يشاهد على شاشات القنوات الإخبارية التظاهرات الشعبية الحاشدة في العواصم العربية وعواصم ومدن العالم مثل لندن وأوسلو وباريس وبرلين وروما وميلانو وطوكيو ونيويورك وواشنطن وجنوب إفريقيا وتركيا وكندا وإندونيسيا وباكستان وغيرها.. ثُمَّ ماذا؟

     في الثلاثين من مارس الماضي، وأثناء إقامتي في لندن، دعتني وكيلتي الأدبية لاورا سوزاين للانضمام إليها مع الروائية الهندية سَني سِنغ للخروج مع الجماهير التي صارت تخرج كل سبت تطالب بوقف إطلاق النار، وتندد بمجازر الاحتلال واستهداف المدنيين، وكانت مسيرة عظيمة، انتابتني خلالها مشاعر فرح لم يكن ذاك أوانها. أن تفرح في ذروة الموت لأن هناك من يلتفت إليك، لكنك تموت.. ثُمَّ ماذا؟

     لم يرتفع صوتي في تلك المسيرة ولم أفُه بكلمة بين هتافات لاورا وسَني، الأوروبية والهندية في منظر غير مألوف بالنسبة لمن مثلي اعتاد على سماع اسم فلسطين بلسان عربي. تردَّد اسم "پالِستاين" بين حشود من البشر المختلفين، جمعتهم المسيرة المناهضة لانتهاكات العصابات الصهيونية التي يصبحون ويمسون عليها صوتًا وصورة في هواتفهم المحمولة. كنت صامتًا، عينًا ترى كُلَّ شيءٍ ولسان عاجر.. أما لسان حالي فيُردِّد ما قال شاعرنا دخيل الخليفة: كم من الموت يلزمنا لنحيا؟

     يتابع المرء منا أصواتًا جديدة بدأت تعلو هنا وهناك في المنظمات الدولية والبرلمانات الأوروبية تدين الكيان المحتل بأقسى العبارات، وجرأة الكثير من مشاهير العالم من ممثلين وإعلاميين وناشطين وهم ينتصرون أخيرًا للحق الفلسطيني بصورة قلما سمعنا بمثيلها في المجازر الصهيونية والانتفاضات الفلسطينية السابقة.. كلها مؤشرات جديدة جيدة في هذا الزمن الأغبر، لكن المرء في ظل إبادة الفلسطيني يجد نفسه يلقي بالسؤال على ما ألقاه سعد الله ونُّوس على طاولة الحكومة في مسرحيته "رحلة حنظلة" قبل ما يُقارب النصف قرن: ثم ماذا؟

     ويا له من سؤال!

     يتساءل المرء وهو في سبيله إلى الاعتياد، كم من الموت ينبغي أن يبتلع من أطفال ونساء وشيوخ ورجال مدنيين عُزَّل في فلسطين حتى يصحو ما يسمى بالضمير العالمي؟ حتى تحيا قضية الحق الفلسطيني في وجدان الأجيال، فتعود إلى الواجهة بعد تغييب، في المدارس والإعلام ودعوات المقاطعة والحث على إعادة قراءة التاريخ. وإلى أي مدى يدوم هذا الارتباط الشرطي بين صحوة الضمير العالمي والموت الفلسطيني الجماعي؟ فكأنما على الفلسطيني أن يستشهد كي نعيد تصفح الكتب وقراءة التاريخ لإعادة الفهم، عليه أن يموت كي نقاطع، عليه أن يُصفَّى كي ننتبه، عليه أن يُباد هو وأسرته وأن يُمحوا من السجلات المدنية كي نؤمن بعدالة قضيته وزيف الاتفاقيات والمعاهدات والقوانين الدولية ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي. الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تلزم الفلسطيني وحده بتطبيقها فيما يعربد الكيان المحتل كيفما شاء ضاربًا بكل القوانين عرض الحائط دونما تدخل فعلي لوقف كل ما يجري من سقوط حر لقيم الإنسان المتحضر لخاطر نظام همجي تواطأت معه أنظمة العالم بالدَّعم أو التنديد الخجول أو الصمت.

     وكأنما هو قدر الفلسطيني، أن يموت على حق، ليفهم العالم ما هو الباطل. فنعيد طرح سؤال ونُّوس المُلقى على طاولة الحكومة مرةً بعد مرةٍ بعد ألف:

     ثم ماذا؟


المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!