حديث الكتب - مروة محمد بصير



دخلتُ إلى مدينة الطين على متن أسفارها، سرتُ عبر صفحاتها أدندن أهازيجها، أتفاعل مع شخصياتها، وأكتب على هوامش أوراقها.

كنا بانتظار إصدار الرواية منذ عام 2019 حين أصدر الكاتب «ناقة صالحة» التي كانت كتهويدة نمنا على سحرها صبورين ننتظر جديده. ولأن «المولاف» لابد أن يعود بعمل أكثر دهشة، عاد سعود بعد سنوات الغياب برواية بديعة ممتعة متقنة الصنع، وتستحق عناء الانتظار، وتستحق أن تُكتب عنها المراجعات.

أسفار مدينة الطين. والأسفار جمع سِفر بكسر السين والسفر هو الكتاب. ولمدينة الطين ثلاثة أسفار: سفر العباءة، الذي تتوسط غلافه كبيرة العرافات التي تعيث في بيوت الطين فساداً، و الغلاف الذي ينقل لنا صورة نساء البحر وهم ينتظرون رجاله، ولونه الأسود كالليل، وما الليل إلا عباءة الكون الساترة التي تخفي الشمس -شمس الحقيقة والعقول التي غيبتها الخرافة-. العباءة في هذه الرواية لها رمزيات كثيرة فهي مرة تبدو حيلة تودد لعروس، ومرة ستر وحجاب، ومرة قوة ومنعة، وحيلة وخفاء، ورعب وسلطة. سفر التَّبَّة: والتي تعني الغطسة الكاملة للغواص، بغلافٍ طيني، وعينٍ مفتوحة تشعر أنها تراقبك أينما اتجهت، وقط أسود يركض فوقها. وكلمة هذا السفر تُبشرك أنك ستظل على راحلة الأسفار، فإن انتهى سِفر بدأ آخر.. الثالث الذي ما وصل بعد سفر العنفوز.

يُدخلنا الكاتب إلى مدينة الطين بكلمة عنوانها كويت، التي انبجست فيها من عجين النقيضين -مياه الخليج والرمل- مدينة بُنيت بيوتها بالطين والصيت الحسن والديون المتراكمة. سكن المدينة بشر وكائنات وخرافات وما خلفوا إلا رطوبة الذكرى.. سقى الله زمانها وتاريخها الذي وظفه الكاتب في روايته بذكاء، واستند فيها إلى وقائع وشخصيات تاريخية حقيقية ولعب معها ومعنا. يقول في كلمته: «يا ربة الذاكرة الزرقاء، يا صفراء» وأسألُه في الهامش «أ لأنها متلونة؟ فلا ذكرى واحدة تستعاد مرتين كما حدثت فعلا؟».

وبعد كلمته يتركنا سعود عند الباب ويسلمنا لكاتب الأسفار «صادق بو حدب» وهو يوصيه: «لا تحاول فهم كل شيء لحظة الكتابة». وفي الهامش أكتب: إذاً نحن -من باب أولى- كقراء يجب ألا نحاول فهم كل شيء لحظة القراءة؛ لأننا سنفهم تالياً. ولأن كل رمز، وكل فعل وكل نأمة هي مدروسة ولها تفسير ومعنى. ويمكن أن أورد عشرات الأمثلة لولا أني أخشى حرق العمل، وما زلنا ننتظر الجزء الثالث لتكتمل لوحة البازل.

يلقانا صادق بو حدب بمقدمة عن الحكاية داخل الرواية، الحكاية التي أملاها عليه شايبٌ ما. وينبئنا أن الرواية التي كتبها عام 1990ميلادي قد صُودرت ومُنعت؛ بسبب مشكلات وويلات صادفتها بعد النشر. ولم يصدر الجزء الثالث...!

من بعد المقدمة يأتي التنويه الأشهر في عالم الروايات التي تُلبس الحقيقة رداء الخيال، فيقول في صفحة 19 «حُرَّاس الغُبار؛ دهاقِنة المعرفة أساطين التراث، الغيارى حراس التقاليد، عسس الماضي، وحملة أختام التاريخ.. هذا النص بأحداثه وأسمائه -وبطبيعة حاله- لا يعد كونه رواية؛ نتخيل بها التاريخ ولا نكتبه.»

حراس الغبار هم الرقابة هنا، الذين يحرسون التاريخ ويمنعون من ينفض الغبار عنه، الغيارى وحراس الفضيلة الذين تمثلوا في الرواية خير تمثيل بهوامش «محرر وزارة الإعلام». في تحايل ذكي وطريف، وكأنه يريد أن يسبقهم ويخبرهم: «أعرف كيف تفكرون».

الرواية التي تزينها رسوم تعبيرية من إبداع الرسامة الكويتية مشاعل الفيصل، أعطت العين مشاهد شبه حية ليغرق العقل في الخيال أكثر. تمتاز أيضاً بموسيقى تصويرية في مشهد سُريالي دائم لستة شيوخ يجلسون على- سِيف البحر- يحيكون الشباك، وهم يغنون للزرقة المتناهية «هولو هية.. هولو هية»، طوال الرواية ما أنقطع غنائهم إلا لأمر جلل، أو احتفاء ببشرى عظيمة.

رواية عاكسة لمجتمع شعبي يغرق في هموم الدَين والرزق، يلعب أطفاله في سكك المدينة « لعبة البروي»، فيتقمصون أدوارا تعكس واقع كبارهم. مجتمعٌ لا ينادي أحداً باسمه المباشر إلا بلقب يدل على صفته أو شكله، يبدو في ظاهره لقباً محبباً إلا أنه قد يعكس سخرية مبطنة في العمق. رواية مترعة بالخرافات الشعبية التي تُطمئن وجود الناس ويؤمنون بها. ومترعة بالكائنات الحية الحقيقية منها والخرافية أو التي تحوّلت بقلم الكاتب إلى خرافة مهجنة. مشبعة ببخور ونبوءات الصاجات -العرافات- اللاتي لهن سلطة حقيقية على نساء ورجال مدينة الطين، -الذين يعتقدون مثلاً: أن الصاجة إن عاقبت البحر فكوته بنارها أعاد البحارة سالمين-، سلطة أقوى من سلطة العقل – مدافع القُفال الأميري إيذاناً بعودة سفن الغوص-. وأقوى من سلطة الدين المتمثل بإمامين لمسجدين المعتدل منهم والمتشدد، وفقيه القصر المتنور. إن التدافع الذي يحدث بينهم كسلطات مؤثرة هو ما تتقدم به الأمم .. وتتطور به أحداث الرواية. { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}.

شخصيات العمل وكائناته عديدة وكثيرة -ليس بالعدد فقط بل بوجودها وحضورها الكثيف- وبما أني لا أؤمن بالبطولة المطلقة لشخصية واحدة لن اسمي بطلا للرواية. فهناك العديد من الشخصيات التي تمتطي المتن وأخرى تحوم حوله وكلها لازمة. فهناك سليمان الغواص الذي غطس في سِفر التَّبَّة، وفضة التي تتولّه عليه، وهناك سعدون الماجن الذي يخاف الحب ولا يعترف لبهيجة بحبه؛ لأنه يشتهي الموت. وهناك بهيجة التي استحالت شجرة مغفرة، لكنها ترفض الموت مع سعدون، وهناك خليفوه بدوره الفاعل وقططه، وهناك أيضًا مبروكة التي تهجس بطفولة سُرقت لولا حرز الصاجة أم حدب وغيرها من الشخصيات الساحرة.

يُمهد سعود لظهور الشخصيات، فيحكي عنها بانسيابية ويبرز لنا علامة، أو وصف قبل أن نغوص عميقاً في أي شخصية. ويُظهر التقاطعات بين الشخصيات من غير إقحام ولا جبر ولا صدف غير معقولة. وكل الشخصيات تتقاطع بشكل أو بآخر كما قال على لسان الصاجة في صفحة 333:»قصتي وقصصكم الطويلة مضفورة مثل جديلة». ومن جماليات الرواية أن الشخصيات مدروسة ومتكاملة بحاضر وماضٍ ووصف خارجي ونفسي متطابق ومتين ولا يهتز خلال السرد الطويل أو يسقط.

الرمزيات في هذه الرواية كثيرة منها الواضح المباشر: كالطيور التي أرى أن الكاتب يحب علوها فوق الجميع وأنها ترى كل شيء، فتكون وسيطا ممتازاً لنقل الأخبار. والقطط التي لطالما آخت السحرة والمشعوذين وبالتالي هي شخصيات مكملة للنص ولازمة.، كالقطين شهاب وإلينور الذين كان حضورهم واضحاً ولم يغفل عنهم الكاتب أبداً فاستطاع أن يوصل لنا مشاعرهم ببراعة. عدا عن رمزيات أخرى، كسمكة العنفوز والمحار واللؤلؤ والسفن ومستشفى الإرسالية الأمريكية، وأوراقهم التبشيرية التي لا تقرأ.

ولم يكتفِ بهذه الرمزيات المعقولة، بل تجاوزها هذه المرة فجاءت رمزيات أخرى متلبسة بشخصيات الرواية نفسها مثل: حدبة تحوي سراً، إبهام يُخبأ وكأنه سلاح جريمة، ونمل يدب في الوجه، وأساور تخشخش في اليد، وناب ناقصٌ دوماً، طول فارع، وجه أمرد، شارب كث بلسانين، ورأس مترع بالأسئلة يقتل صاحبه، وصوف يزرع في الأرض. ثم هناك الزمن الذي هو على وجهين: أسبوع لعامة الناس، وأثمون للصاجات بيوم سديس بعد خميس قبل جمعة!

ويلعب كاتب الأسفار بكل هذا، وبنا كقراء، وبنوع الخطوط المستخدمة وبالسرد الذي يتنوع ويتوزع بين الشخصيات والحوار الذي هو بينهم والحوار الذي هو بين كاتب الأسفار وبين أنفسهم حيث يفكرون بصوت عالٍ. ويلعب بالمصادر فيختلقها، أو يستند إلى مصادر حقيقية فيذكر لك نصاً موجوداً بعينه، بل يشير إلى رقم الصفحة بالضبط، فتبحث عن المصدر -في تحدٍ معه- وتقرأ لتجد أنه قد ملأ فجوات النص بخياله العبقري، فتطرب لهذا الإتقان واللعب الاحترافي. وقد تأكد لي -مثلما قال غايب في صفحة 348 من الجزء الثاني- أني سوف أستمر بالقراءة لهذا الكاتب مادام يكتب.

من فرط إعجابي قمتُ بقراءة العمل مرتين متتاليتين، وأوصي به، ولا أذكر أنني أعدت قراءة رواية فور الانتهاء منها منذ أن غادرت سنين الطفولة. وإن كانت القراءة الأولى قد سحرتني، فالثانية قد أذهلتني وجعلتني أتوقف عند الكثير من الجماليات للحبكة وتقنيات السرد، والشخصيات البديعة المتكاملة. وحين دخلت مدينة الطين علقتُ هناك وما استطعت الخروج؛ لأن الرحلة لم تنتهِ بعد. وما قراءتي الثانية إلا محاولة أخرى للخروج من أسر الدهشة.

   في الصفحة 362 من الجزء الثاني يقول صادق بوحدب يائساً: «على الشايب أن يضع حداً لكل هذا» فكتبتُ في الهامش «على سعود أن يفعل»، عليه أن يُخرجنا من مدن الطين.


المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كأنما قُدِّر لهم الموت.. كي تحيا القضية في ضمير العالم أبدًا!