أسفار سعود السنعوسي


 

بقلم: أحمد الصراف


قرأت عشرات الروايات لروائيين وكتاب كويتيين، وكانت في غالبيتها روايات جيدة، وقلة منها مميزة، ولكن روايتَي «ساق البامبو»، و«أسفار مدينة الطين»، للقاص المبدع، الشاب سعود السنعوسي، احتلت مكانة خاصة في قلبي، خاصة الثانية، ربما لارتباط الكثير من أحداثها بطفولتي وعلاقتي بالبحر والفرجان، والأسواق وقصر السيف، والمستشفى الأميركي، وغيرها من أماكن وأحداث عشتها، أسعدتني أحيانا، وأتعبتني غالبا، وأبكتني مرات.

 

رواية «أسفار مدينة الطين» بجزأيها وصفحاتها التي تقارب التسعمئة، بانتظار جزئها الثالث، رواية يمكن وصفها بالعالمية، سواء بطريقة سردها أو أحداثها، والأهم من ذلك خيال كاتبها، الذي بالرغم من عدم تجاوز عمره الأربعين بكثير، فإنه يشعرك وكأنه عاش أحداث الرواية على مدى مئة عام.

 

أحاسيس غريبة كانت تكتنفني وأنا اقلب صفحات الرواية، كنت أشعر وكأن رائحة البحر تملأ خياشيمي، وأسمع صرير أعشاب الماء، أو القصيع، وهي تتهشم تحت أقدامي، وكأن رمال الشاطئ تتخلل بين أصابع قدمي، أو كأنني أسير مع الكاتب بين أسواق الكويت القديمة، أو أعبر الشارع القصير الذي يفصل بين مقبرتي مدوه (الشمالية والجنوبية)، الذي كان طريقي يوميا لمدرسة الصباح، والعودة منه للبيت، وأسمع دقات قلبي تتسارع، وأنا اقلب الصفحات، متذكرا ما كنت أشعر به من حرج وفضول وأنا أمر بالبيوت الأربعة الخربة، التي كانت تشتهر بسوء سمعتها، متخيلا ما كان يجري خلف أبوابها، محاولا التلصص بالنظر بين شقوق الحوائط والأبواب الخشبية المهترئة، ممنيا النفس برؤية ما يشبع فضولي، ويثيرني، ويؤجج أو يطفئ جموح تخيلاتي عن أمور محرمة، لكنها مثيرة ومشوقة.

 

يقول سعود على لسان «سليمان»، الشخصية المحورية في الرواية: «... عساني إن مت ألا أدفن بين بيوت المطبة في مقبرة «بن حقان». هو البحر الذي تنشق روائح أطواره في كرّه وفرّه، يُميز ريحًا من ريح؛ ريح الطين المالح ساعات الثبر، وقت يتقهقر الموج تاركا كائناته النافقة تتلقفها السراطين، تنتشر روائحها في الديرة إذا ما هب الهواء فتنتشي روحه بفعل ما يسميه الأهالي «فساء البحر»، مع فوح حامض مختمر تُطلقه أعشاب الماء في الليالي الرطبة، أو نفح رمل الساحل في الأيام المطيرة، أو ريح كلسية تنُثّها عظام الحبار النافق على الرمل، إذا ما توهجت بيضاء تحت الشمس على سيف البحر، أو رائحة احتراق الرمل في ظهيرة رمضاء في أُوار الصيف، أو رائحة شتاء باردة مالحة جافة تهب مع صيحات النوارس. هو البحر الذي حفظ أطوار صوته، مَور أمواجه صوت أنفاسه كما تقول الصاجّات... أصوات النسوة المقعيات على صخور اليسْرة، يغسلن الثياب في الحي القبلي إلى جوار صخرة الوطية ويتبادلن النمائم... حسّ نورس الشتاء، جوعان يُمشط سطح الماء، يصيح بصاحبه مثلما يصيح نواطير الليل في السوق يُنبهون بعضهم بعضًا: «صاحي؟»... أصوات الدفوف والطبل البحري وغناء الرجال بإيقاع «سنكني» كلما أنزلوا سفينة جديدة إلى البحر، وأهازيج النساء في وداع السفن واستقبالها، وصلوات العائلات الموسوية الزاحفة إلى السيف عصر رأس سنتهم العبرية، حينما يتسربلون ببيض الأوشحة ويلقون في البحر كسرات الخبز ذنوب عام مضى، تلتقمها أسماك الزوري وتمضي بها بعيدا. وهو البحر الذي يتراكض إلى ساحله مسيحيو مستشفى الإرسالية، محملين بمصارين مرضاهم، يغسلونها بمائه المالح قبل أن يُعيدوها إلى بطون المرضى طاهرة من المرض فيبرؤون..».

 

* * *

 

رواية «أسفار مدينة الطين» جميلة وجديرة بالقراءة، وبالاقتناء.


المصدر: جريدة القبس




المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟