قراءة سياقية في رواية (ناقة صالحة)

 أ.د/ فايزة أحمد الحربي



تحمل رواية ناقة صالح للروائي الكويتي سعود السنعوسي من العمق ما يمثل الوعي المجتمعي بتاريخه وموروثه الشعبي، فأقام الكاتب وعيه الفكري في مقاربة النصوص وفق زمن تاريخي يحكي قصص حياة البادية منطلقاً من (ديار صالحة). والرواية لا تحمل قيمتها في الحدث بقدر ما ورائياته التي هي سبيل الكاتب لتصوير حياة البدوي والنظام القبلي الذي يحكمه بجوانبه الاجتماعية وأعرافه وأحكامه.


فالرواية بدءًا من عنوانها تتناص مع قصة النبي صالح خاصة، إذ إن الناقة لقبت بـ(ناقة صالحة) نسبة لبطلة القصة كما يُنبئ الحوار الروائي حقيقة بهذا الملمح الديني "أطلت النظر إلى وضحى أحبتها أم دحام بعد أن أطلق عليها القوم لقب ناقة صالحة، عسى أن يمنحها الله بركة ناقة صالح." (الرواية: 56). وفي قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ}. (سورة هود64) وقد ورد في الأثر أنه لحق بناقة النبي الأذى؛ إذ تآمر عليها قومه وعقروها وتقاسموا لحمها مع لحم فصيلها، فكان مصيرهما الهلاك.


فما البعد الذي يختزله التعالق النصي إثر العنونة بين قصتي ناقة النبي صالح و ناقة صالحة، في تقارب ومشابهة الأحداث القائمة على فكر التضحية بناقة صالحة أم صالحة ذاتها؟


كما استهلت الرواية بعتبة نصية جاذبة للقارئ لاستقبال النص منبئة بأحداث الرواية للشاعر دخيل بن أسمر "ومنزلك قلبي، وأنا لولا الخلوج ما أترك دياري لديرة صالحة" و(الَخلوج) هي الناقة التي يخالجها الحزن ويصاحب حزنها صوت وعويل حينما يذبح أو يموت حوارها، فتظل مدة تحن إليه حيث تعود إلى المكان الذي فقدته فيه. فالعنونة بـ "ناقة صالحة" دال صريح بأن الناقة هي بطلة هذه الرواية، تتقاسمه مع صاحبتها. فالكاتب جعل روايته تنتمي لعالم الصحراء وناقة صالحة/ وضحى، شكلت المحور المفصلي للرواية وأحداثها، فالعنوان الذي يضيف ملكية الناقة إلى صالحة ينبئ بالعلاقة بينهما التي أحالت الناقة إلى دور مؤنسن بطولي محرك في مجريات الأحداث، ففي مستهل الرواية عندما يسأل الصبي "إنما أسألك عن قصة الناقة الخلوج" فيجيبه الرواي العليم محمد/دخيل "العلم عند الله".


هذا وقد انطلق النص الروائي من الفضاء المكاني (ديار صالحة) وما له من مرجعيات تاريخية أدبية. فالديار من بادية إمارة الكويت، كما تجلى المكان في هذا البعد، مقترنٌ بالمخيلة والذاكرة الجمعية لملامح البيئة الطبيعية، بما بدت صورته في تضاريسها وهضابها وأوديتها ورمالها وجبالها ونوقها ووحوشها، الذي تجلى في سياق النص الروائي، لينعكس على علاقة الروائي بأرضه مما يمثل العودة إلى البيئة الصحراوية الرحبة صورة من صور الانتماء المكاني، لاسيما أن المبدع الخليجي ينتمي إلى مكون ثقافي منبعه الجزيرة العربية، كما أشار (السنعوسي) في ملحق روايته لمرجعية الرواية للموروث الشعبي وأنها تضمنت قصائد لكبار الشعراء، إذ يقول: "قصة ناقة صالحة تعيد إلى الأذهان قصة دخيل بن أسمر وصالحة آل مهروس التي ذكرها التاريخ بأكثر من رواية، إذ قدمت رواية ناقة صالحة صورة مجردة مما شابها من أسطرة بحكاية متخيلة مستوحاة من قصيدة شهيرة للشاعر محمد عبد الله العوني. (الرواية:171)


والرواية كما أرى غير مترابطة في وحداتها الحكائية، فكل فصل قصة بذاتها، وأحداثها تتألف بحسب سياق الراوي العليم مناصفة بين بطلي الحكاية صالحة ودخيل، فقصة ( إلى أمارة الكويت ربيع 1941) (قبل العلم إمارة الكويت 1901) ممهدة للحدث الرئيس والحكاية الأساس لما حصل قبل أربعين عاما بصوت الشخصية الرئيسة (دخيل بن أسمر)، أما قصة (العلم بادية الكويت 1901) فهو قلب الرواية ومحورها الأساسي تحكيه لنا (صالحة بنت أبوها)، عندما تستهل قولها "قد أكذب لأخبرككم الحقيقة هذه هي الحقيقة." وفي فصل بعد العلم يعود إلينا (دخيل) مجددًا ليخبرنا النهاية، مع ملحق ينبئ بحقيقة القصة وديار صالحة (بعد العلم الشيخ محمد – فالح 1901).


والنص الحكائي في الرواية أشبه ما يكون بسرد الحكايات الشعبية من حكاوي الجدات، خالية من العمق، تحكي حباً ساذجاً حدث في المراهقة لم تكتمل فصوله بين صالحة وابن خالها (دخيل بن أسمر) بحكم العرف القبلي بتحجيرها منذ طفولتها لابن عمها (صالح) وزواجها منه جبراً، ومع هذا فجماليات الرواية تجلّت في اقناع المتلقي بواقعية الحدث وتصوير فترة مهمشة في الكتابة القصصية من منطقة الخليج العربي "همت بناقشة الحناء ابنة عمتي منذ صغري بنت لاتشبه بنات قبيلتها" صالحة بنت أبوها "حمامة وحشية بين فواخت وادعه، فرس جموح عصية على الترويض، المجنونة طارحة النوق، تبزّ فتيان القبيلة في مبارياتهم. ما رأيت مثلها قط." (26-27) وتنتهي الحكاية بينهما بكلمة (العلم عند الله) في لقائهما الأخير " وفي عيون غير الأبل، هل نلتقي؟" أجابني كأنه لم يجب. "العلم عند الله" (79). وحينها يختار دخيل الهجرة طواعية من الصحراء للمدينة رغبة منه في نسيان الماضي محتفظا بذكرياته الحية معه.


إن الرواية بدأت وانتهت في سردها عند (دخيل) وهروبه من قبيلته، لتعكس جانباً من حياة القبائل العربية وطبيعة العلاقات الاجتماعية بينهم، ورغم العداء بين أبناء قبيلته لحكام الكويت آثر العيش وسط أعدائه عن الطرد من مدينتهم، وهو الذي ترك أرضه طواعية منه، إذ لم يطق العيش في الصحراء على وسعها "لفظتني الصحراء إلى مدينة ترفضني. وعلى سبيل مغازلتها اضطررت إلى أن ألوي لساني على طريقة أهلها في الحديث" وفي هذا السياق كلما لاحت له ملامح المدينة ببيوتها الطينية عدل عقال رأسه المائل كيلا يتعرف أهلها إلى القبيلة التي ينتمي إليها، متنكرا باسم (محمد الشاوي) وإن استطاعت المدينة أن تلهيه بمشاغلها عن حنينه للوطن، ولكن حدث أن "مرّ بمسمعه بكاء ناقة خلوج فأنشد قصيدة الخلوج" يلوم بها نفسه فيما تنوح البهيمة وتحن إلى حوارها الذبيح، وهو يعانق الصمت عن حنينه لأرضه ومحبوبته وناسه لسوء حظه انه لم يقتل إنما جلد ..." (19)


أضف لما سبق تميز نص السنعوسي بالإحالة التاريخية إلى معركة (الصريف) دون سرد أحداثها، وهي المعركة التي قامت بين آل الرشيد وحلفائهم العثمانيين، وأمير الكويت وحلفائه، للكشف عن مجريات الاحداث التي تنمو في اتجاه آخر بموت "صالح" متأثرًا بجراحه في الكويت الذي ادعى أخوه أن أميرها طلبه بالاسم كي يقاتل إلى جانبه، وعندما يخبر( فالح) (صالحة) تنمو الأحداث بشكل متباين ليتحكم في مساراته صراع البقاء والوجود بين (دخيل) و(صالحة) والناقة (وضحى)، فحينما تتجه (صالحة) إلى الكويت، بحثاً عن (دخيل بن أسمر)، برفقة صغيرها، وناقتها وحوارها، يحدث أن تجزع الناقة عند سماعها لعواء الذئاب وهم على مشارف الكويت فترفس ولد (صالحة) خطأً لتشاهد موت ابنها أمام عينها، فتنتقم صالحة لوليدها فـ "طرحت الحوار أرضاً ورفعت خنجر صالح بكفي اليمنى عالياً، وكما علمني أبي، عقرت الصغير أمام أمه" (146) وتثأر الناقة المكلومة لحوارها لتنقض على صالحة وتتركها هامدة تحت ركام الخيمة وهي مطبقة على خنجر زوجها (صالح)، وفي هذه الأثناء يسمع دخيل نواح الناقة (الخلوج)، ليتفاجأ بمحبوبته مقتولة وابنها ليعود إلى الكويت ويحفر قبرهما، ليتجلى الغموض في المتهم في قتل صالحة "امتطيت فرسي وأسرعت مقفلاً إلى الكويت أحفر قبراً .. فسُجنت." (152)


لقد امتازت الرواية بتنوع مستوياتها من حيث اللغة والأداء وتعدد الرواة بين العليم الشيخ (محمد الشاوي) وسرد حكاياته بالزمن المضارع والرواة بضمير الأنا: (دخيل بن أسمر) ثم (صالحة آل المهروس)، وسردهما للحكاية بالزمن الماضي، كما أن التنوع جاء متوافقاً مع الزمن السردي خلال الأربعين عامًا التي دارت في أثنائها مجريات القصة الشائكة بين العاشقين اللذين وقفت الأعراف القبلية في وجه حبهما، وكل ذلك منح حكاية (دخيل) و(صالحة) وبينهما الناقة (وضحى)، هوية مرجعية ممزوجة بين الأسطرة والتاريخ، لحكاية نادرة التوثيق. احتوت قصص حب أشبه بالخيال. وهذه الحيل اللغوية، تضافرت في الفضاء المكاني/ الصحراء، لتتوافق مع بنية الحكايات الأسطورية وقصص الحب الخالدة، أضف إلى ذلك الافتتاحيات الشعرية مع مدخل كل فصل بالرواية، والمقتبسة جميعها من الشاعر الكويتي دخيل الخليفة (1964) لتمثل مفتاحاً للولوج لمجريات النص الروائي وأحداثه.


كما أن لغة الرواية تشكلت من البيئة الطبيعية حول الصحراء والمكونة له في كثير من عناصره بأشكالها المتحركة كالحيوانات من الخيل والإبل والنباتات المتعددة الأسماء والخصائص المرتبط بجذور أرضها ذات الأثر النفعي للإنسان، فكل نبتة لها أبعادها الفنية واستعمالاتها الاجتماعية عرفت بها منذ فجر التاريخ، كـ (العرفج- النبق -الكمأة- الهال- القرنفل- الشعير..) واتسمت بها الثقافة العربية ومجتمعاتها المحلية، مما يعني أنّ البيئة مثلما تعكس بجميع ألوانها وظلالها على الإنسان ومحيطه الاجتماعي، كذلك لها عواملها المؤثرة في الأدب.


كما ظهر البعد المكاني من خلال طبيعة السوق في أوائل القرن العشرين في حاضرة الخليج الكويت تحديدا، وقد وصف أوبة قوافل الإبل القادمة من البادية وصحراء الجزيرة العربية، مع تصوير آلية البيع والشراء التي قد تتم بالمقايضة، كل ذلك جاء بصياغة لغوية إبداعية من عمق البيئة البدوية، مجسدة الحياة الواقعية لينقل المتلقي إلى ذلك الزمن المهجور والمهمش من الذاكرة، باستخدام (السنعوسي) مفردات قد حال عليها الزمن ولم يسمع معظمنا بها مثل: الثمام- الرمث، العلندة، الثمام، الصرد، أشخب، بغام، فواخت، تنث ضوع الخزامى-مزودة. فيقول " فيما تنتشر روائح السمن الكثيفة وضوع السمن وفوح ثمار النبق، وترتفع صيحات سماسرة الماشية في ساحة الصفاة الترابية، يُرهف الشيخ سمعه يُنصت إلى خليط اللهجات، لُكنة شمال البادية، ورطانة فارسية، وكلام أهل الداخل هجين من كل ذلك". (13)
وبهذا، فرواية (ناقة صالحة) بحجمها الصغير الذي لا يتجاوز ال173 صفحة، تحمل بين ثناياها زخماً لم تكن الحكاية فيها لتوقف جمالياتها عند سرد أحداثها، إلا لتحيل إلى أبعادها التاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجية، بلغة روائية متوافقة مع ذلك الزمن والبيئة البدوية الموغلة في عمق الصحراء، ومن خلال تمكن الروائي من أدواته السردية التي تحكم في مسارها تعدد الرواة.
نشرة "سياق".. الرابط.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟