إنها فوضى المذعورين يا سيدي العفريت

 

إنها فوضى المذعورين يا سيدي العفريت

 


     يُعرف عن طبيعة الأنظمة الراسخة، بصرف النظر عن درجة صلاحها أو فسادها، تفوقها على معارضيها بكل شيء بحكم امتداد التجربة وتراكم الخبرة، وامتلاك كل أدوات إدارة الدولة وإحكام السيطرة على مفاصلها بالقانون وحفظ أمنها واستقرارها إن توفرت الرغبة. غير أن شيئًا من سابق القول غير موجود في هذا البلد العابر لمفهوم الدولة إلى مفهوم جديد وفريد حد السخف، حينما يحل المزاج الفردي محل القانون، والتعنت محل التفاوض، فيحتل الصراخ محل الحوار الذي أفضى إلى لا شيء، والمصالح الفردية محل الصالح العام، ويحل الاعتباط محل الحكمة وحسن التدبير.

     ولأن واحدنا يستطيع أن يفهم سياسات كل الدول المتشظية على وجه الخريطة إلا سياسة هذا البلد الغارق في أزماته يُقيم بنيانه على كف عفريت؛ للسيد العفريت صاحب اليد المبسوطة أقول: إلى أين ستصل بنا الحال؟

     الفوضى مدانة بكل تجلياتها يا سيدي، وما يتمخض عنه المشهد السياسي تحت قبة البرلمان وعلى مستوى الشارع غير مقبول، ولا يُبشر بانفراج على المدى القريب، ولا يؤدي إلى شيء إلا المزيد من الفوضى وتكريس مرحلة جديدة قوامها الصوت العالي فقط، وما لا يتحقق بالقانون يتأزم بغيره وبقوة الشارع، والشارع لا يعرف النظام وإن كانت مطالبه عادلة.. إلى أين ستصل بنا الحال سيدي العفريت؟

     بود المرء أن يدين هذا كله يا سيدي، غير أنك عجزت أن تمنحني دلالة على جديتك وأنا أقف على كفك الهلامية، فتعيد لي الثقة بأني أعيش في «دولة»، وعوضًا عن ذلك خلقت مني مواطنًا مذعورًا ينهشه القلق على نفسه وبيته ومستقبل أبنائه، لأنك حمَّلت مخالفيك أسباب فشلك طيلة السنوات الماضية، واستخدمت كل الوسائل للقضاء على الأصوات المناهضة لسياساتك، وتمكنت من قمعها إلى حد بعيد، وماذا بعد يا سيدي؟ أخرست خصوم قراراتك السياسية لسنوات، وما قدمت لي مشروعًا إصلاحيًا واحدًا يرمم «طمام المرحوم» المهترئ، ويقوم على رؤية واضحة تقنعني بجدية عزمك على الإصلاح، فأدين التيارات المعارضة وأصدق أنها سبب الخراب كله، غير أن ملفاتك المفتوحة بقيت أبد الدهر مفتوحة، ومعظم مواليك ملعونون بعلامات الاستفهام، وبقي معارضو سياساتك من النواب السابقين في المنافي لا يشبهون المعارضين في أي مكان، لا يؤلبون العالم ضدك، ولا يسعون لخراب دارك، ولا يعملون على تقويض نظامك، ولا يبتزونك وأنت لفرط فسادك لقمة سائغة للابتزاز، لأن ليس هذا مبلغ طموحهم منذ البدء وحتى المنتهى. غير أنك أطبقت الأفواه وما أطبقت ملفات الفساد المتكلس في أركان الدولة. بل ليت الحال وقفت على «طمام المرحوم» الذي خبرناه بحكم المعايشة الطويلة جيلا بعد جيل، إنما كل الأمور قد آلت إلى ما هو أسوأ، وكلما أدركنا القاع انشقت الأرض عن قاعٍ جديد، وأن عنق الزجاجة الذي حشرتمونا فيه بات أطول من الزجاجة، ولا نفاذ منه إلا بكسر حكيم أو موت رحيم. وأن كل الأزمات تشتد لتنفرج إلا أزماتنا، تشتد لتفرخ لنا مزيدًا من الأزمات لأن المبدأ هو «آنا أراويك» و«كلامي هو اللي يمشي»، وكلامك يمشي يا سيدي العفريت لو لم يكن مبتور الساقين، ولو أننا لا نقف اليوم على تخوم الخراب لا يفصلنا عن سوء المنقلب إلا حذفة حصاة.

     إن الفوضى التي نشهدها اليوم هي مجرد نتيجة. نعم؛ فوضى المذعورين همجية وقاتمة ومذمومة وغير محمودة العواقب، لكن الاكتفاء بإدانة النتيجة وإعفاء المتسبب ضرب من العبث، وقد توحدت أطياف المجتمع ضد ممارساتك، وصار إنجازك الأوحد هو أنك، دونما نية، خلقت طيفا جديدا قوامه «المواطن» على اختلاف أصوله ومذاهبه وتوجهاته الفكرية والعقائدية، فأدانك السني والشيعي بما فيهم ابن القبيلة، بل وحتى الشيوخ من داخل أسرة الحكم، كما لو أننا أمام غزو جديد نسيَ أمامه المواطن كل اختلافاته وخلافاته ليقف في وجه ما هو أشد ضررًا.

     سيدي العفريت الساكن في جسد حكومتنا.. أليس في العفاريت عفريت رشيد؟!

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟