في وداع عام الهشاشة



«التقطتُ لكَ صورة!».

«اِحذفيها من فضلك».

«لماذا؟ انظر كيف تبدو، كأنك زيوس في شبابه».

 

     راحت تعبث بهاتفها، فتوهجت شاشة هاتفه برسالة مصوَّرة. فتحَ رسالتها فأبصرَ «زيوس» المزعوم، غير أنه ظهرَ على غير مألوف وجهه الصَّخري. تراءى بلحيةٍ سوداء وَخَطَها المشيب. خيال الإله الموتور الذي ما عرفه إلا إلهً عاجزًا يطلُّ من عليائه في قديم الأساطير، يعتلي الغيمة إذا ما غضبَ فيُطلق البرق. فأطفأ الهاتفَ على خيال الإله الهزلي وأفلت ما يشبه ضحكة. كاتبٌ يعتلي غيمة من قلق، لا حول له على غضب، فضلًا عن «كتابة» البرق.

 

      هو يعرف هذا الوجه تحديدًا إلى أين يمضي. ولأنه يدري؛ فقد آثر صمتًا يشبه الصَّلاة وسط جلبة مزايدات سوقٍ قديم. صمتٌ يشبه ميثاقًا غير مُشهر مع الحياة. يشبه هدنة مع اليأس الحائم في الجوار. هدنة يعبِّئها حزنًا شفيفًا لئلا تغري يأسَهُ مساحةٌ شاغرةٌ في الرُّوح، فيستأنف اليأسُ معركةً ليست متكافئة القوى، فيحتلُّ في الرُّوح مساحة مُغرية صغيرة نفذت بسلامها من نكد العيش. يستوطنها غصبًا مثلَ كل الغاصبين، ولا يَني يتمدَّد مثل الدَّمامل حتى يُقيم في الرُّوح دولة. لا شيء في الروح، لا شيء، إلا حزنا حميدًا لا يخلو من جمالٍ إذا ما التزم حدَّه النَّبيل، فهل يلتزمُ الحزنُ الحدود؟ لا شيء في روحك يا أنت إلا فتنة كئيبة مثل شمسٍ غاربةٍ في نهاية يومٍ مطير، فانعم بما لديك من جمالٍ وحاذر، وكُن متيقِّظًا لهجمات يأسٍ غادرة، ولا تسمح لتلك النَّوبات الشَّرسة أن ترهبك بسياط الخوف مما لا تدري.

 

     هو يدري مثلما هذا الوجه يدري؛ أن الشمس غدًا تشرق على نافذته، وغدًا تغيب، يمضي شطرًا من النهارِ يُغازلها ابتهالًا للحياة من وراء زجاج النَّافذة المطلة على لا شيء، ويرقد الليلَ انتظارا لما قد يجيء مع شمسٍ جديدة أو لا يجيء. قُم يا مُدمن النَّوم قُم، ها قد أبصرتَ شمس اليوم باهتةً فإلى فراشك عُد، واطفئ عقلك بعقلك وواصل الصَّمتَ بالصَّمت، فلا تُسعفك للقولِ لُغةٌ، ولا صوتَ لك، والآخرون هُم الآخرون، والفارغون هُم الواثقون، عيونٌ تُبحلق ولا تُبصر، وظلالٌ آدميةٌ تمرُّ تحت نافذتك بلا آذان.

 

     ألفان وعشرون، ليس إلا واحدًا من الأرقام الصعبة، التي ربما يتعافى العالم من خيباتها في القريب، فهل تتعافى يا أنت؟ اكتب ماشئتَ فإن لك في ذِمَّة 2020 قولًا أخيرًا. وودِّع هذا العام الغريب ولا تهدر وقتك في محاولة فهمه. عامٌ احتلَّ الوباءُ متنه، فلم يُبصر أحدٌ أوبئةً نكَّلت بالنَّاس في هوامشِه.

 

     أي غربة دهمتك في عامك الغريب يا غريب؟ وماذا فتَّقَت في رأسك العزلةُ أيها المطِلُّ من وراء نافذتك على ساحات العبث وتفاهة الحياة؟ لحظة من فضلك! أتقول الحياة؟ وهل يعرفُ المتورطون بالحياةِ معنى الحياة لو كان للحياة معنى؟ دعك في شؤونك يا صغيري وكابد، واحفر في الصَّخر لغةً يفقهها قارئٌ ضريرٌ يجيء في الغد، وأعد النظر في حياتك أنت، حياتك وحدك، كيف كانت يا صغير، كيف صارت وكيف مع طلوع شموسٍ الغدِ تصير.

 

     ما الذي ورطك بكل هذا الجنون وشؤون الآخرين، فهل صدَّقت أن ذراعك الطُّولى قادرة على شيءٍ خارج الورق؟ أبصر ذراعك يا أنتَ محمولة لِصقَ صدرك في جبيرة، يا من شغلك العالم وظننت أنك بالكلمةِ قادرٌ على تغييره، وأنت في صغائر شؤونك بالكاد تحتمل. ماذا جنيت من حماستك واندفاعك وكل مسلماتك القديمة؟ وأنت ترى معلميك ينقلبون على أنفسهم وعلى كل ما لقَّنوك صغيرًا يا أيها الصَّغير. أولئك الذين وعدوك بغدٍ عادلٍ يجيء حتمًا إذا ما آمنت بالعدل، تُسائلهم اليوم عن كلامهم القديم، ولا شيء فيهم يُشبههم إلا خيال وجوههم وأسماءهم القديمة، ماذا جرى وكيف على هذا النحو ينقلبون؟ لو أنهم اليوم لاذوا بالصَّمت مثلك لألجمت أسئلتك المحمومة، غير أنك صرت الملام، وحدك الملامُ منهم على إيمانك بما لقنوك. تُصوِّب سبَّابتك الواثقةِ إلى أحد كبارِ الذين علموك الحُلم في دابر الأيام: «ماذا عن كلامك في مسرحيتك القديمة؟»، يجيبك: «كانت مسرحية». فتقول وسبَّابتك مُشهرة ثابتة في وجهه لا تزال: «ماذا عن مقالاتك والكتب؟»، ويجيبك يُنهي حديثًا لا يُشبه الحديث: «اندفاعة شباب.. كبرتُ وعقلت». فينطفئ في روحك يقين، ويُشعَل في روحك يقين. وتصرخُ في وجه الذي علَّمكَ فكبُرَ وعقل: «عساني أنعمُ بجنوني، أكبُر ولا أعقل». فيوليكَ مُعلِّم الأمس ظهره وأنت تقفُ وحيدًا في أرض المجانين، تُشهر سبَّابةً لائمةً راجفةً في الفراغ، تلوم لا أحد.

 

     صُم عن الكلام صُم، وعُد إلى فراشك يا أنت، نَم واستيقظ في الغد بعدما يخبو دويُّ الألعاب النَّارية ويتبدَّدُ في سماء الغيب دُخانها، لعلَّ شمس الغد تطل على عالمٍ أنظف. هي ليست سنة صعبة تقضي وطرها فتمر. لا يمرُّ إلا رقم الشُّؤم ذاك، وكسور النَّفس وصدوعها يرأبها الوقت ويجبرها إنما أثرها لا يزول، والآخرون هم الآخرون، وأنت كما أنت عينٌ تُبصر وحروفٌ تصرخُ في فمك مُقطَّب الشَّفتين، وذراعٌ مُقمَّطةٌ بجبيرة، تحملها مثل رضيعٍ يتيمٍ غافٍ عند صدرك المتعب أبدا.

 

     ودِّع عام الهشاشةِ يا أنت، ونَم يا مُدمن النَّوم نَم، واصحُ على غدٍ جديد، وافتح ذراعيك لعامٍ سعيد، بحقِّ حماستك وسذاجتك واندفاعك وكل مسلماتك القديمة. سوف يجيءُ عامُك الذي تريد، غدًا أو بعد غد، دونما أمراضٍ تفتك بأحبَّتك.. دونما صداقاتٍ هشَّةٍ ولا علاقات ضبابيةٍ ولا عداواتٍ ولا أشباه أحِبَّة، ولا حبيبٍ ينسلُّ مثل التُّراب بين أصابع كفِّكَ المطبقة، ولا خيباتٍ جديدةٍ تكسرُ في الصَّدر ضلعًا جديدًا، ولا شعار آمنتَ به فكفرَ بك، ولا هزيمة تشغلك عن هزيمةٍ تشغلك عن هزيمة، ولا ضجيج حوافر قطعان يُثيرها مجهولٌ ولا غُبارها يكدر صفو العيش، ولا جميل يرحل فتسقط من جبين السَّماء نجمة، تصيرُ وَسمًا في مواقع التواصلِ أقلَّ عُمرًا من ذبابة، وَسمًا يُعمِّر بضع ساعات في الأثير قبل أن يؤرشفه النِّسيان في ملفَّات الزَّمن الوراء. تمنَّ عامًا جديدًا يا هذا، بلا خاذلٍ ولا مخذول، ولا كفيلٍ ولا مكفول، ولا منافقين يفرخون المنافقين، ولا نار يُشعلها مظلومٌ في نفسِه فتصير النَّار رحمة، ولا وطن يُشرع أبواب السُّجون لبنيه أو يُمهِّد لهم دروب المنافي البعيدة، ولا وجوه كالحة يمتطي أصحابها جياد الدِّين والطائفة والقبيلة، تغزو خيمة برلمانك المرهون بضغطة زِر، فتصادر حُلم الغد بوطنٍ «عاقل»، ولا شيخ فاسد، ولا وزير دُمية، ولا نائب تمنحه صوتك بصندوق اقتراع، فيسُنُّ لكَ مثل سكين النَّحر قانونًا يركلك إلى السِّجن إن كتبتَ ما لا يشتهون. نَم يا مُدمن النَّوم نَم، وانسج من خيوط الحُلم عامًا يليق بآمال المتعبين، بلا عنصرية الفارغين، بلا كائناتٍ هشَّةٍ مذعورةٍ تعشقُ الحياة على موت الآخرين، مخلوقات يدفعها الذُّعر إلى السَّير فوق الجُثثِ احتفاءً بالحياة. تمنَّ عامًا جديدًا فريدًا ولو في الخيال أيها العائش في الخيال.

 

     ولمَّا انثالَ الهاجسُ تلوَ الهاجسِ قاطعَته مُحدِّثته:

 

"حذفتُ الصورة من هاتفي فهل تحذفها؟".

 

     يُجيبها ولا يُبعد عينيه عن النَّافذة:

 

"لا. فقد قالت الصُّورة ما قالت، ولتكن شاهدة على كل هذا العبث.. سنة سعيدة، وتصبحين على خير".

 

     يلتفتُ إلى مُحدِّثته فيُبصر لا أحد.

 

31.12.2020


المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟