الإنعكاس و التأويل.. ملاحقة أحجية ابن أزرق في رواية حمام الدار لـ سعود السنعوسي



بقلم تسنيم الحبيب:


إنها فعلا أحجية، رواية تبدأ من حيث تنتهي و تنتهي من حيث تبدأ، تعتقد في بدايتها أنك ستدخل عالم رواية جميلة ترشح منها هموم الكتابة، ومكابدات كاتب يروم إنهاء مخطوطه ، و تقرر أنك ستعاين تجربة جديدة ذات بعد روائي مركب قد لا يمت لهموم الإنسان اليومية بقدر ما يعرض قلقا خاصا ، لكنك بعد ذلك تكتشف أن الناص يُتيهك – متعمدا – في عالم روائي تجريبي لتلاحق مُمكنات الرواية و مكوناتها و تُحبس بالدهشة.

رواية حمام الدار/أحجية بن أزرق للكاتب سعود السنعوسي و الصادرة عن الدار العربية للعلوم رواية جدلية ، قد يجدها البعض مختلفة عن نِتاج الناص السابق، و مغايرة عما يُنشر من روايات ، و بكل صدق أجدها علامة فارقة في خط سير الكاتب ، ذلك أن هذا العمل أظهر الذكاء السردي الفائق للكاتب و بيّن بجلاء عنايته بالتفاصيل و بكل كلمة و تركيب و حدث تضّمنه العمل ، و أكّد أن مامن سطر عبثي في رواية تُخايل المتلقي و تراوغه سطورها و تضطره لتكرار استنطاقها، و أن عليك التقاط كل كلمة لتعبر إلى ما يمكن إدراكه منها.

لا أميل إلى إلصاق تهمة الصعوبة في الرواية، و لا أستطيع القول إنها مستغلقة، و لا أفضل أن أدعي أنها نخبوية و لشريحة خاصة، بل أرى أن هذه الرواية قد تروق للقارئ الذي يحب التنقيب عن روح العمل باجتهاد و معاودة و تكرار، و قد لا تروق اللقارئ الذي يبحث في كل عمل عن حبكة متسلسلة أو حكاية نافذة، يُعزى ذلك إلى إشكالية الذوق و القبول قبل كل شيء.

1/ المكان الممتد و الزمن المحدد و التجريب:

تقوم الرواية على ركيزة الزمن بينما تشرّع أبواب المكان على فضاء أكثر اتساعا، يصلح لأن يكون قالبا مكانيا لا تحدده بيئة ما و إن جاء ببعض أشياء المكان ، كالبيت الكبير و مكمن الغنم و المرسى و حتى أشياء الشخصيات كالعباءة و الديرم، مما يشي ببيئة مألوفة وإن كانت قابلة للتمدد ، بينما ضيّقت الرواية خط الزمن بنحو مختلف : خمسة صباحات، تارة تأمُّل، و قنصة ما قبل التأمل، ولنكون أكثر دقة نقول أن الرواية بكل أزمنتها المذكروة تُبنى على اثنتي عشرة ساعة مس فيها كاتب – في النص – ضبابي و مُحيّر وغير محدد، شرهُ الكتابة، ليواصل حرث الأوراق و يدلق بها كل ما يعرفه وما لايعرفه وما يحاصره من شخصية من شخوص نص أسماه النص اللقيط  ومن ثم لتنقلب عليه تلك الشخصية، وتبقى الرواية تأخذ المتلقي ليختار بكامل وعيه المهيمن بينهما، أن يختار الكاتبَ أم الشخوص أنم يبقى في دهاليز المتاهات بينهما.

خمسة صباحات مسرودة بقالبين، من وجهتيّ نظر ، الكاتب و الشخصية المتمردة ، و قد يظن المتلقي أن هذا ضرب من العبث و أن طبيعة الرواية -أية رواية- لا تحتمل هذا الخروج عن المألوف في السرد ، و أن ذلك يُفقدها روح الحكاية و يشغل المتلقي بالقالب عن القلب والمضمون، لكني وجدت أن ما قدمته رواية حمام الدار بعيد عن العبثية، وليس لإشغال المتلقي بالتجريب، لأن الرواية تقدّم الحكاية لكن عبر صراع مؤثر لتعلق فكرة النص الأساسية و التي تتمحور حول: الفقد والانتظار.

فليست حمام الدار مجرد عمل تجريدي غير طاعن في قلق الكائن و معاناته، إنما هي تغوص في تلك المعناة و لكن بنحو مختلف و ذكي.

حتى في الفصل المعنون بـ أثناء ساعة تأمل والمسرود على لسان شخصية "قطنة" والذي يظهر كأنه فصل مُترف خارج من اعتيادية الوجع الإنساني، حتى في هذا الفصل يقدم الناص أسئلة مقلقة حول الإذعان الإنساني للطاغية ومدى مضاء الروح في تغيير ما رُسم لها، و ما يتكرم به المصير على الثائرين والرافضين للخنوع.

إن مفارقة هذا العمل تظهر في تقديمه لمستوى جديد من التجريب، فبالعادة يقودنا التجريب إلى تفهّم أن الرواية قامت على خلخلة القواعد في سبيل تطوير طبيعتها وتقديم مجموعة أخرى من الخيارات للقارئ، فالشخصيات قد تُأوّل وتُسقط أو تنعكس، لكن هنا في حمام الدار صار لكل شخصية تأويلا، وتأويلا للتأويل، ولكل حدث وجه ووجه للوجه، و إن كنا قد اعتدنا أن تصرخ شخوص الرواية في صانعها فلم نعتد أن تقوم شخصية ما في رواية ما بسرد وقائع حيوات المؤلف و تفاصيل أفعاله.

2/ مع الشخصيات:

لدينا في الرواية شخصيات محددة، ولدينا إنعكاسات لها، وسأذكر هنا الشخصيات حسب فهمي والتقاطي لتفاصيلها.

شخصية النص الأساسية والمحركة لعجلته هي شخصية "ابن أزرق"، الكهل المأزوم، صاحب إرث الذكريات المرة، ووقائع الفجائع الآنية، والتصرفات المريبة والغير مبررة، لكن السؤال الذي يُسعى إليه، هل هو عرزال أم منوال؟ وأيهما يكتب الآخر؟ ومن منهما الصادق في روايته؟ أهو عرزال الذي كتب مذكراته مُرمزة، أم هو منوال الذي سقط في فخ التدليس؟ كلاهما كاتبان أصاب البكم قلميهما، وكلاهما يناوش الآخر ويريد علو الكعب عليه، وكلاهما يسعى في فناء الآخر لتكتمل الرواية.

أعتقد من خلال قراءتي البسيطة و ملاحقتي لتفاصيل الأحجية أن الكاتب الحقيقي هو من قدّم التفسير -أخيرا- لكثير من الأمور الشائكة، وأن الكاتب المزيف فضحته كلمة مثل "أشتاق" في السياق التالي:

"أنا في غرفة المكتب منذ الصباح، أشكو لزوجتي التي "أشتاق" ضيق صدري و حيرتي في أمري".

أو ربما كما يقول عرزال:

"ذلك الموتور منوال، المنسوب لأزرق، الذي كتبتُه مؤلفا كاذبا حتى مقدمته، يكتب عن نفسه ما يشتيه، لم يجرؤ على الاعتراف بأنه انفصل عن منيرة.. استدعاها في نصه زورا مُتخايلا أمام قرّاء محتملين" ص 109.

و كما يؤكد :

"اذهبي إلى شقة منوال، دقي جرس بابه، ادخلي وأخبريه بأنه مجرد شخصية مؤلف ورقية كتبها مؤلف آخر، حاولي أن تقنعيه لأن يُنهي هذا المخطوط انتحارا تجنبا لمصير الدُّرج السفلي" ص 110.

وفي المقابل لدينا شخصيات أخرى لها انعكاسات ورمزيات في النص، العجوز بصيرة التي أظنها صوت مُركز لهواجس و أخيلات منوال، أفعى الدار التي لا تخون و المتمثلة بـ فايقة العبدة البرصاء، قطنة، حمام الدار وهم غائبوها الشائقون، زينة و رحال، و الأم  فيروز.

من الشخصيات أيضا "أزرق" الأب المحير، المحب لزوجته فيروز الساخط عليها، القاسي على عرزال و المتنصل من منوال، ولا أعتقد أن الكاتب اختار عنواني "نص لقيط" و"نص نسيب" عبثا، ولا انتخب دزم مبرر لـ ابن أزرق عينين شهلاوين تشبهان عين العبد الآبق الذي أثار غضب أزرق فطرد كل العبيد بينما أبقى على "فايقة" وابنتها.

أعتقد -من خلال تتبعي للأحجية- أن أزرق هنا يرمز لحبر الكتابة، أو للكتابة بشكل عام،  وأن تلك القسوة البادية من قبل أزرق ما هي إلا امتداد لفكرة الفصل: في لحظة تأمل، وتعزيزا لمفهوم سلطة الكاتب وهيمنته.

في الرواية:

"لم يعد لي مكان هنا فقد استحوذ أزرق على كل شيء" ص 87.

وفيها أيضا:

"علمته المذكرات أن أزرق البغيض على حق دائما وإن خالف كلامه ما يشتهي"، ص 96.

بالطبع يبقى هذا اجتهاد مُحاول في متون النص، ولكل قارئ ضفة ما يسكن إليها، وعلى العموم فإن هذا التشخيص قد يقودنا لسؤال المأزق في الرواية: هل الكاتب طاغية؟ أم أب رؤوف؟

رواية حمام الدار رواية غنية، خاصة، ولا أظن أن مثل هذه القراءة تحيط بها، وبنقاط جمالها التي يجب أن يُشار إليها، لكن يبقى أنها تجربة قرائية مميزة، ومنجز يستحق أن تزوره حمامات القلب مرارا.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟