"فئران أمي حصة": مرافعة إنسانية ضد الكراهية




أ.رشا سلامة


لربما توقّع البعض من الكاتب الكويتي سعود السنعوسي أن يُفرِد صفحات روايته "فئران أمي حصة"، التي يزيد عددها على الأربعمئة من القطع المتوسط، كلها لمناقشة الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة في الكويت.

من يفترض ذلك لا يعرف السنعوسي جيداً ولا يعرف كثيراً عن اهتماماته الإنسانية الواسعة، وفي الوقت ذاته، لا يعرف دواخل الصنعة الأدبية التي تبتعد شأواً بعيداً عن لغة البحوث والتقارير المكثفة والخطاب المباشر.

من يعرف السنعوسي، يدرك جيداً دماثة خلقه وتحفظه في الحديث، لكنه في الوقت نفسه شاب كويتي منفتح فكرياً ولا يقبل الرواية السياسية الرسمية على علّاتها من دون تمحيصها ولا حتى الرواية الدينية من دون تدقيق. وهو شخص بعيد عن العنصرية والتصنيفات والفرز؛ بل يكاد يهجس بهذا الأمر. لذا، فإنه لا يعدم الحيلة في معالجة المواطن الكويتي والعربي عموماً من الفكر العنصري، كما أنه يفتح ملفات كثيرة عالقة حول العلاقة مع الآخر، كما هو الحال بالنسبة لعلاقة الكويتي والفلسطيني في أعقاب مؤازرة الرئيس الراحل ياسر عرفات احتلال الكويت، وما تمخّض عن هذا من خطاب عنصري؛ بل ومحاولات إيذاء لفلسطينيين لا ناقة لهم ولا جمل بخطأ القيادة آنذاك.


الرمزية والإبهام

في معالجته العنصرية الطائفية والمذهبية، استخدم الكاتب الرمزية تارة، من خلال الأسماء والتطرّق للصحابة ومقولات الأطفال المبهمة، ليأخذ الخطاب نحو جهة المباشرة في مرات قليلة، لكنه في الأحوال كلها، استخدم لغة أدبية على سوية مشهود لها منذ الرواية السابقة "ساق البامبو"، وإن كان يؤخذ عليه الإطالة في مرات كثيرة، رغم كون الأحداث ممكن أن تختزل في صفحات أقل، وبما لا يدع القارئ عرضة للملل.

نَسَبَ السنعوسي معظم حُمّى السعار المذهبي الذي استعر في الكويت للغزو العراقي، وهو لم يغفل العوامل الأكثر عمقاً من قبيل الخطاب الديني التهجّمي وانتصار الثورة الإيرانية، وما إلى ذلك من عوامل، لكنه لم يضعها بالتساوي مع العامل الأول، وإن كان مفهوماً تماماً أنّ الغزو والاحتلال، وما إلى ذلك من كوارث سياسية، تهوي بالمجتمعات بطريقة مروّعة، ولعل التطرف الديني يكاد يكون المُخرَج الأبرز في حينها.

الخلاصة حول هذه النقطة، أنّ السنعوسي ينتصر للإنسانية بالمجمل؛ إذ أنصف في "ساق البامبو" العمالة الوافدة وتحديداً الآسيوية وقرع جدران الخزان في المجتمع الكويتي في ما يتعلق بالخطاب العنصري الرائج، ليأتي في رواية "فئران أمي حصة" بمزيد من دعوات التسامح، لكن هذه المرة ليس حيال الوافدين فحسب، وتحديداً الفلسطينيين، بل بين الكويتيين أنفسهم: سنة وشيعة.

لا يجمّل الخطاب العنصري

لا يُجمّل السنعوسي الخطاب العنصري وإن تحايل عليه في مستهلّ الرواية؛ بل هو يذهب لإحراج مستخدمي هذا الخطاب، من خلال صفحات العمل اللاحقة. يُسمّي الأمور بمسمّياتها ويُطلق على الأحداث التاريخية توصيفاتها الحقيقية، ويصل بمطلقي هذا الخطاب لنتائج منطقية وفكرية تبرهن على تساوي الجميع ليس من حيث المواصفات فحسب؛ بل والخسارات، كل هذا بقالب روائي محبوك بعناية، وفي هذا جانب قوة أيضاً وجانب إضافة للمرافعة الإنسانية التي يقوم بها كاتب ما؛ إذ إن الكاتب الرديء لا يفعل بترافعه المليء بالأخطاء التاريخية واللغوية والركاكة الأدبية سوى التأثير سلباً على القضية التي يتناولها. لذا، بالوسع القول إنّ السنعوسي إضافة غنية للأدب القائم على فكرة نبذ العنصرية والتمييز والدعوة للتسامح.

هذه النوعية من الأدب باتت بمثابة الوصفة السحرية لمن يرغبون بالوصول للعالمية ولقوائم الروايات المرشحة لجوائز على مستوى عالٍ؛ إذ ما من شيء يقلق العالم حالياً ويؤرّقه بقدرالعنصرية المتفشية. والسنعوسي لا يعوزه الذكاء لالتقاط هذه الحقيقية، بالإضافة لتفصيلات أخرى تزيده فرادة من بينها أنه خليجي، في وقت لا يجد فيه المتلقي أنّ الروائي الخليجي يحظى بالرواج ذاته الذي يحظى به نظيره العربي (احتكاماً في مرات كثيرة لصور نمطية لدى الشعوب العربية عن بعضها البعض). السنعوسي قَلَبَ المعادلة بالكامل، وجاء بروايتين على سوية عالية تحدثتا عما هو مسكوت عنه، بالإضافة لكونه برهن على إنسانيته العالية ومواقفه القومية العربية بأمثلة عدة منها ذهابه إلى فلسطين ومدّه جسور التواصل الكثيرة مع المثقفين الفلسطينيين في أنحاء العالم كافة، وليس في فلسطين فحسب، عدا عن محاولته، عبر كتاباته، تصحيح كثير من الصور النمطية عن شعوب عربية مثل العراق، على سبيل المثال.

ليست رواية السنعوسي القائمة على فكرة المذهبية والطائفية ذات فرادة على هذا الصعيد فحسب؛ بل يُحسب لها أنها عرّفت القارئ العربي على كثير من مفردات الحياة الخليجية والثقافة الشعبية فيها، بعيداً عن الصورة النمطية المهيمنة التي تجسّد الكويتيين، تحديداً، بالشعب الاستهلاكي البعيد عن الهمّ العربي، وهو ما أسهمت فيه الدراما الكويتية على وجه الخصوص.

الرواية الممنوعة في بلد صاحبها

مُنِعت رواية السنعوسي في الكويت، كما ثارت أصوات كثيرة عليها، على الرغم من كون هذه البلاد اكتوَت بنيران الطائفية مثل؛ البحرين والسعودية والعراق ولبنان وغيرها. لذا، بالوسع قول إن نظرة السنعوسي محلية نعم، لكنها تطمح لما هو أبعد من هذا؛ أي ثمة بُعد عربي في الأمر بل وعالمي، وهذا ما جعله يتصدّر المشهد الخليجي روائياً. وإذا ما قورن بين السنعوسي والسعودي عبده خال، فإنّ الأخير كتب رواية لا تقل أهمية حَمَلَت عنوان "ترمي بشرر"، لكنها لربما لم تحظَ بكل هذا الرواج والصدى في البلاد العربية، ليس لتطرّقها لشأن سعودي داخلي، بالعكس؛ إذ كان المعظم مهتماً بسماع تفاصيل من هذا القبيل جرى التعتيم عليها طويلاً، بل لأنّ الكاتب لم يولِ الشقيق العربي أهمية ما في حديثه، لربما بسبب سياق الرواية ولربما أيضاً لقناعاته السياسية الجدلية التي نشرها سابقاً على صفحات التواصل الاجتماعي والتي انتقدت المقاومة الفلسطينية.

على العكس من ذلك، ينحاز السنعوسي للمقاومة العربية عموماً وينبذ الفصائلية ويقتسم مع الشعوب العربية آلامها، وهو ما لم يبرهن عليه عبر الوسائل الآنفة فحسب، بل وعلى صعيد شخصي لدى معظم من تعاملوا معه.

لا يتوقع السنعوسي، في روايته، أن تحلّ المسألة الطائفية بسهولة، ولربما كان من باب التفاؤل أن جعلها تنتهي بالعام 2020، لكن ما كان مخفياً بين السطور، وفداحة ما كاشف المتلقي به من تجذّر للطائفية، يشي أن الأمور ستطول كثيراً، ما لم تُعالَج فكرياً في المقام الأول، قبل أن يكون الحل أمنياً أو سياسياً.



المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟