قراءة عراقية لرواية الكاتب الكويتي السنعوسي “فئران أمي حصة”

علي شاكر

اهتمامي بمشروع الكاتب الكويتي سعود السنعوسي أبتدأ قبل سنوات قليلة فقط، تحديدا بعد صدور روايتي “كافيه فيروز” التي قرّبتني من واقع النشر في العالم العربي وجعلتني أدرك كم التغيرات التي طرأت عليه خلال العقد الماضي، المقولة العتيدة عن القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد ودورها المحوري في المشهد الأدبي لم تعد دقيقة فلا معالم الحياة في تلك الحواضر بقيت مثلما كانت ولا طبيعة نتاج مؤلفيها وشغف أهلها بالقراءة استمرا على حالهما … كل شيء تغيّر سريعا، وان بقيت بيروت تطبع، لكن ما تطبعه العاصمة اللبنانية اليوم أمسى خاضعا لاشتراطات ومعايير مدن الخليج، السوق الأهم للكتب العربية في عصرنا.

كثرة من روائيي اليوم تكتب وعيونها على الجوائز الضخمة التي تمنحها المؤسسات الثقافية السعودية والاماراتية والقطرية، تحاذر من الاقتراب من قائمة المحظورات المعروفة في تلك الدول وتغازل كل آمن ومرغوب من قبل مستهلكيها … النشر في نهاية المطاف صناعة وتجارة، وكأي صناعة وتجارة أخرى، يخضع هو أيضا لاشتراطات سوقه المنشودة واحتياجاتها، أمر قد لا نتفق معه أو نجده منصفا، لكنه واقع الحال الذي يحكمنا كما تحكم الثقافة الأمريكية السائدة ملامح التجارب الابداعية في الغرب، أو جزءا كبيرا منها  

قرأت رواية “ساق البامبو” ضمن محاولتي لاستشراف سمات المنتج الأدبي لمؤلفي المنطقة واستوقفني أنها، بخلاف روايات خليجية أخرى كنت قد اطلعت عليها، لم تحصر شخوصها وأحداثها بين جدران القصور الرخامية الفارهة ولم تتخذ من تأوّهات العاشقين وزفراتهم ودموعهم محورا وحيدا لحبكتها … وجدت نفسي أمام مشروع حي نابض وجريء، متفاعل مع محيطه المحلي والاقليمي بل والعالمي أيضا، وان أخذت على الكاتب النهايات التوافقية التي رسمها لأبطال عمله، والتي جاءت مخالفة لما اقتضاه التطور الطبيعي لمسار السرد فيه

“فئران أمي حصة” رواية المؤلف التالية أدهشتني بنضجها وشراستها، كسر سعود السنعوسي فيها التابوهات وتحرّر من هاجس ارضاء مجتمعه ذي التقاليد الصارمة فرسم صورة قاتمة لما يمكن أن تقود اليه العصبية الطائفية والعرقية من فوضى وخراب واقتتال بين أبناء البلد الواحد (ربما بوحي مما هو حاصل فعلا على أرض جار الكويت الشمالي العراق، وبلاد عربية أخرى) ما أوقعه في مشاكل مع هيئة الرقابة التي حظرت عرض وبيع العمل في المكتبات الكويتية … لفتني أيضا حرص السنعوسي على التجديد في الشكل والهيكل، وان كنت أفضل لو أن التنقّل بين الأزمان في الرواية قد اقتصر على مواضع أقل للحفاظ على وحدة وتماسك بنيانها، بدلا من التقطيع المتكرّر الحاصل

يجب أن أعترف هنا أن اطلاعي على “فئران أمي حصة” لم يكن سعيا وراء المتعة أو بغرض تقييمها وان تحقق الأمران في المحصلة، قرأتها لأني كنت أبحث عن نص يتيح لي معرفة رواية الطرف الآخر لما حدث عندما قرر صدام حسين غزو جارتنا الجنوبية التي كانت وسائل اعلامها حتى أسابيع قليلة قبل الاجتياح تلهج بذكره وتشيد بمآثره … اقتحام جيشنا الصدمة للكويت وضمّها كمحافظة جديدة للعراق وكل ما تزامن معه وتبعه من نهب وقتل وحصار اقتصادي امتد لسنوات طويلة ثم السقوط المدوّي لنظام الحكم والوضع الكارثي الذي تلاه كان ككرة ثلج هائلة سحقت في تدحرجها أحلام ومصائر ملايين العراقيين الذين مات من مات منهم فيما توزّع الباقون بلاد الشتات في أصقاع الأرض المختلفة

استرجعت ما حلّ بنا وببلدنا خلال العقود الماضية في طريقي الى المكتبة العامة في أوكلاند حيث أعتدت العمل على نصوصي ومصارعتها، بدأت بمراجعة ما سطّرته على حاسوبي النقّال خلال اليوم الماضي عندما لمحتني بعض سيدات نادي الكتاب العربي ووجّهن لي دعوة كريمة للانضمام الى حلقة نقاشهن لرواية “فئران أمي حصة” التي ستجري في قاعة جانبية صغيرة في المكتبة، فلم أملك سوى التلبية

 حقيقة أن عضوات النادي عراقيات مثلي، بل أن بعضهن من البصرة، المدينة الأقرب الى الكويت والتي لم يسبق لي زيارتها للأسف، زادت من فضولي لمعرفة رأيهن في العمل … حديث احدى الحاضرات عن رمزية النخلات الثلاث المذكورة في الرواية وتشابه أسمائهن في اللهجتين الكويتية والبصراوية كان استهلالا موفّقا وجميلا للجلسة، عقّبت سيدة أخرى على الأمر بتوضيح الوشائج التي ربطت بين الشعبين عبر العصور فقد كانت البصرة في مطلع وأواسط القرن العشرين حاضرة الجنوب الزاهرة التي اعتاد الموسرون من أبناء الكويت والخليج على زيارتها بغرض الاستجمام والترفيه والتبضّع من أسواقها العامرة قبل أن يستولي حزب البعث على مقاليد السلطة في العراق في الستينيات، فانعكست الآية وصارت الكويت التي شهدت في تلك الفترة انتعاشا اقتصاديا بفعل وفرة واردات تصدير نفطها مقصدا للبصراويين وسوقا أثيرا للكثيرين منهم

أصغيت صامتا لحديث السيدات عن البصرة التي دمّرتها الحروب المتعاقبة وتذكّرت ما قاله لي صديق أردني زار  المدينة مؤخرا عن حال شوارعها وأحيائها المزري حتى يخيّل لمن يتجوّل فيها أنه قد انتقل الى واحدة من قرى الهند أو أفريقيا النائية

“بدأت بقراءة الرواية بوجل،” قالت احدى السيدات … “خشيت أن يسقط مؤلفها في فخ التعميم فيهاجم كل العراقيين ويأخذهم بجرم هم أبرياء منه، أو على الأقل معظمهم، لكنني احترمت فيه حيادية الطرح وموضوعيته”

بالفعل، كان ذلك من الأمور التي لفتتني في النص وكذلك عضوات النادي الأخريات اللاتي تأثّرن لقصة الصائغ العراقي التي وردت ضمن الأحداث، اذ لجأت اليه فتاة كويتية لبيع حليها وتدبير مبلغ الرشوة المطلوب منها مقابل السماح لها بلقاء أسير في سجون النظام في البصرة، فقام الرجل المسن باعادة ذهبها اليها مع رزمة من النقود، ثم همس في اذنها قائلا:

“الله يساعدكم!”

مرور السنعوسي على حوادث النهب التي طالت المستشفيات الكويتية اعاد الى ذهن واحدة من السيدات تفاصيل واقعة كانت شاهدة عليها خلال عملها في سلك التدريس، اذ انبرت زميلة لها ذات يوم لتبرير الغزو وما تلاه من سرقة لمحتويات الدور والدوائر بكونها أفعال مشروعة نصّت عليها تعاليم الاسلام، فهي غنائم حرب ولا حرج في الاستحواذ عليها … علّقت الحاضرات على الموضوع بأن كثيرا من الأسر العراقية في تلك الفترة حرّمت على نفسها شراء البضائع الكويتية التي غزت أسواقنا بغزارة لم نشهد لها مثيلا من قبل

احتلال صدام حسين للكويت حدث مفصلي ترك بصمته الواضحة على مسار شخوص “فئران أمي حصة”، لكنه ليس كل الرواية وسيكون من المجحف قراءتها كنص عن الغزو فقط، مضت عضوات النادي في تحليل مدلولات العمل وملامح شخوصه بينما استغرقتني الأفكار والذكريات عن تلك الأيام العصيبة التي مررنا بها وشعور مكتوم بالخزي ما فتئ يلازمني على الرغم من براءتي من الجرم وحقيقة أن المجازر التي ارتكبها النظام العراقي السابق بحق شعبه تفوق في حجمها وبشاعتها ما أصاب أهل الكويت بمراحل عدة … بالاضافة الى توثيقها المتوازن لما حدث واتخاذها من الماضي منصة لقراءة المستقبل، يُحسب لعمل سعود السنعوسي الأخير أنه صدر في توقيت حرج تزامن مع حالة مريعة من الاحتقان المذهبي سادت المنطقة وأوشكت على طمس حقائق التأريخ فيها حتى أننا نرى اليوم من اتخذ قرار الغزو وكان المسؤول الأول عن فظائعه وقد تحول في أعين الكثيرين الى شهيد وبطل مغوار وايقونة للمجد العربي الضائع

 

مهندس معماري وكاتب عراقي/ نيوزلندي
رابط المقال على موقع رأي اليوم

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟