المراوغة السردية في رواية البوكر بين الكلاسيكية والحداثية

 
 
 
ممدوح فرَّاج النَّابي
 
عبر حيلة سردية تجمع بين الكلاسيكي والحداثي يعمد المؤلف الشَّاب، سعود السنعوسي، في روايته «سَاق البامبو» الحاصلة على جائزة البوكر 2013، إلى طرق المسكوت عنه في مُجتمع تحكمه الأعراف والمواضعات الاجتماعيّة، يئن بمشكلاته الداخلية وأوجاعه، مُتَسلحًا بتقنية شكلية سمحت له بتمرير ما يريده دون التعرُّض للمساءلة؛ لما يتطرق له من نقدٍ للأوضاع السياسية التي كانت مسيطرة أثناء الثمانينيات والتسعينيات، وحالة العداء الشديد للحرية، ومصادرة الآراء، ثمّ المأساة التي فجعت الجميع باحتلال الكويت، والآثار المترتبة عليه (ها)، بالإضافة إلى السُّخرية المريرة من واقعٍ، يظنه البعض فردوسا وهو في الواقع أقرب إلى الجحيم.
مرَّر كل هذا عبرَ حكاية مسرودة سردا كلاسيكيا عن عائلة كويتية (أسرة عيسى الطاروف)، وعلاقاتها الاجتماعية، ونظرتها للمخدومين الذين يعملون لديها، وموقف ربة البيت غنية من علاقات أبنائها، وسعيهم لاختراق تلك المواضعات والأعراف التي تُحييها الأم، ولا تتنازل عنها، في رغبة منها للحفاظ على السُّلم الاجتماعيّ الذي ورثته العائلة. وقد عمد لتمرير حكايته إلى الكثير من الحيل التي من شأنها تعمل على تغريب النص وفصل الذَّات عن الموضوع. بدءًا من إشارته إلى كون النص مترجمًا، ثم إشارته للتعريف بالمترجم إبراهيم سلام، وفي النهاية ورود هاتف المترجم وعنوانه وبريده الإلكتروني، وغيرها من الوسائل الفنية. كما استطاع المؤلف المُستتر وراء الراوي الغائب، أن يقدِّم تشريحا لطبقية المجتمع، وانعكاسات هذه الطبقية على الهوامش، وفي بعض الأحيان مردودها على أبناء الطبقة ذاتها (كما في حالتي راشد وأخته هند الطاروف)، ثم تسليط الضوء على الهوامش والتوابع أو القاع، من خلال الإشارة إلى وضعية العمالة الأجنبية في الكويت، والانتهاكات التي تُمَارسُ معنويا أو بدنيًا أو حقوقيًا في ظلِّ حالة الاستعلاء وسوء معاملة العمالة الوافدة، لأسباب بسيطة، وهو ما يتبعه بانتقام الوافد بالاحتيال والغش، ويصير الاثنان تجسيدًا لعبارة غوسيه «أوغاد ينتقمون من أوغاد» (ص 333). وهي المشكلة التي قد صارت صداعا حقيقيا في مكاتب حقوق الإنسان، وحكايات مزعجة في عناوين صفحات الحوادث. وقد برز جانب كبير منها في سوء معاملة الأم غنية، لجوزافين عندما قَدِمَتْ كمخدومة جديدة، ثم الخدم العاملين في البيت والنظرة المستعلية، واتهامهم بأنهم عديمو الشَّرف، ومن خلالهم (فالأحداث مسرودة كلها بعيون فلبيني/ آخر) نَفَذَ إلى هدم الإمبراطورية وإظهار المثالب التي تستتر خلف الهالة الكبيرة، وأسماء العائلات الكبيرة، التي جعلت خولة في لحظة صفاء تتمنى «لو أننا ننتمي إلى عائلة أخرى» (ص 346)، لكي يتحقق لأفراد عائلتها السّعادة في ظل إدراكها أن كل المميزات التي يمنحها اسم العائلة أمام الغير ما هي «في الحقيقة إلا قيود وقائمة طويلة من الممنوعات»(ص 346).
-1-
يقدِّمُ المؤلف نصه عبر أربعة أقسام، متفاوتة في الطول والقصر، مسبوقة بنبذة عن المترجم (إبراهيم سلام)، ثمّ كلمة للمترجم يوضح فيها ظروف الكتاب، وبعض التوضيحات الخاصة بالفروق اللغوية ودوره ومنهجه في الترجمة، بإلاضافة إلى إشارة ذكية في نهاية النَّص إلى عنوان المترجم، ورقم تليفونه. بالطبع هذه التنويهات التي وضعها المؤلف لم تأت كحُلْية أو زخرف بل كحيلة لسعى المؤلف سعود السنعوسي لإقناع متلقيه بواقعية محكية، في المقام الأول، بعكس الكثيرين من الروائيين الذين لا يملون من نفي صلة المحكي بالواقع. وبنفي صلته بالنص في المقام الثاني، ومن هذه الحيل التي تتوزع داخل السرد، الربط بين واقع الكويت وأحداثه المعاصرة قبل الاحتلال البغيض بقليل إلى ما بعد الاحتلال، وهذا مثبت بالتواريخ التي تشير إلى سياق تاريخي آني، يفور بالأحداث الجسام، وإن كان في الجزء الخاص بالأحداث في الفلبين يرد ذكر تاريخ من النضال الوطني ضد المستعمر الإسباني، وهو ما تأكَّد عبر مسمى البطل الذي جاء كاحتفاء ببطل الفلبين القومي الطبيب والروائي «خوسيه ريزال» الذي قامت الثورة بعد إعدامه. وأيضًا من خلال ورود شخصية الروائي إسماعيل فهد إسماعيل للسرد، حيث ذهاب الأم إليه لسؤاله عنه زوجها بعد انقطاع الأخبار.
يشير كُلّ قسم من الأقسام الأربعة التي جاءت كالتالي: (عيسى قبل الميلاد، عيسى بعد الميلاد، عيسى التيه الأول، عيسى التيه الثاني،و أخيرًا: عيسى.إلى الوراء يلتفت) إلى حالة بطله، وما يعتريه، من تشتُّت، وانسحاق لذاته في رحلة بحثه عن الهُوية والدين، أو ما ينتابه من شعور بالاغتراب من نظرة الآخر له (خاصة في حالة الرفض له). فتتوّزع سيرة البحث عن الهُوية الوجودية والهُوية الدينيّة على أجزاء النص الأربعة، وكأن النص يعكس حالة انقسام الذات في بحثها عن هوتيها وتيهها في تحقيق الريّ الديني بعد حالة الظمأ المعرفي. ومع حالة الاستقلالية التي تبدو عليها وحدات النص، إلا أنها تقابل بنوع من التوحد عبر تدخلات الراوي الضمني والمؤلف الضمني اللذين كانا بمثابة الرابط لجمع هذه العناصر، كحيلة من حيل مقاومة التفتت التي بدت عليها الذات من خلال حالة التماهي التام مع المقولات التي يُصدِّرُ بها المؤلف أجواء نصه، فيتداخل الصوتان صوت المؤلف الضمني المتطابق مع المؤلف الحقيقي (سعود السنعوسي) في رفضه حالة الانهزامية التي بدا عليها البطل وأفراد الحكاية وهذا واضح في المقتبس الأول الذي صدر به الجزء الأول بقوله: (لا يوجد مستبدون حيث لا يوجد عبيد) في سياق فصل يتحدث عن عيسى قبل الميلاد وحالة المهانة التي تعيشها الأسر بسبب ديكاتورية الأب الذي يفرض عليهم العمل في مهن ليست شريفة دون الاعتراض، حتى تأتي الثورة من قبل آيدا التي ترفض أن تكون دجاجة، فكانت ما قامت به آيدا هو تمثل لأيديولوجيا المؤلف الضمني التي بثها التصدير. وقد يكون التصدير سخرية من المؤلف الضمني المتماهي مع أيديولوجيا المؤلف الحقيقي لحال الشخصيات المنهزمة بفعل الآخرين كما يظنون، كما هو الحال في التصدير الذي يعلو الجزء الرابع: «َسَلُّط البعض لا يمكن حدوثه إلا عن طريق جُبْنِ الآخرين»
كما أن ثمة حيل يستخدمها الروائي الشّاب لإقناع متلقيه بواقعية محكية، في المقام الأول، بعكس الكثيرين من الروائيين الذين لا يملون من نفي صلة المحكي بالواقع. وبنفي صلته بالنص في المقام الثاني، وأوّل العناصر، هو الربط بين واقع الكويت وأحداثه المعاصرة قبل الاحتلال البغيض بقليل إلى ما بعد الاحتلال، وهذا مثبت بالتواريخ التي تشير إلى سياق تاريخي آني، يفور بالأحداث الجسام، وإن كان في الجزء الخاص بالأحداث في الفلبين يرد ذكر تاريخ من النضال الوطني ضد المستعمر الإسباني، وهو ما تأكَّد عبر مسمى البطل الذي جاء كاحتفاء ببطل الفلبين القومي الطبيب والروائي «خوسيه ريزال» الذي قامت الثورة بعد إعدامه. وأيضًا من خلال ورود شخصية الروائي إسماعيل للسرد، حيث ذهاب الأم إليه لسؤاله عن زوجها بعد انقطاع الأخبار.
كما لا يمل السَّارد من إدخال لُعْبَة الصُّدفة في سياق أحداثه لِيُنَمّيهَا، فما أن تنقطع أخبار الزوج وماله، تبدأ تساؤلات الزوجة عن مصيره خاصة بعد نشوب الحرب، وتقودها الصدفة إلى بيت الروائي الكويتي إسماعيل الفهد، الذي كان يعيش في الفلبين، لسؤاله عنه خاصة أن راشدا كان كاتبا ومعروفا، وبالمصادفة يحكي لها الروائي أن أخباره انقطعت عنه، كما أنه بالأمس انتهى من دوره في الرواية التي يكتبها، كما أن في اللحظة التي ينقطع فيها آخر خيط للوصول إلى الزوج، يأتي خطاب صديقه غسان الذي يخبرهم بأن راشد اختفى من أيام المعركة، وهو الآن ينفذ وصيته بعودة ابنه إلى بلاده ووطنه، وهو ما يتحقق بالفعل. لكن قبل العودة كان التقى غوسيه أثناء عمله في جزيرة بوراكاري مجموعة من الشاب وقد عَرَف أنهم من الكويت، فحكي لهم أنه كويتي فسخر البعض منه، ونصحه البعض بألا يفكر في العودة إلى الكويت، وتلعب الصدفة التي هنا ننفيها تمًامًا ونطلق عليها هندسة السَّرد، وتوزيع الأدوار كما يقوم المونتير في العمل السينمائي. فالراوي لم يترك خيطًا مده في أول الرواية أو شخصية جاء ذكرها إلا استفاد من بنائها، بتوظيفها في السياق السردي، ومن ثم فالصدفة لا مجال لها فهؤلاء الشباب الذين التقاهم الكاتب أثناء سياحتهم في الفلبين، يلتقي بهم مرة ثانية، بعد عودته إلى الكويت وطرده من بيت الجده بعدما بدأت الأنباء تنسرب إلى خارج حدود القصر، عبر العاملين، وجابر هو واحد من هؤلاء الشباب، ثم الدور الذي يلعبه هؤلاء الشباب، كنموذج فاعل وحيوي؛ حيوي حيث المرح والمتعة التي تطل أينما وجدوا (لاحظ موقفهم في الجزيزة، وعلى الطائرة، وفي الشقة) والفاعل؛ دورهم في مهاجمة الفساد الذي راح يستشري في الكويت بالتصدي لمحاولات شراء المرشحين للمجلس النيابي الأصوات، ووقوفهم إلى جوار الصوت المناصر للحقوق والأقليات هند الطاروف في مفارقة تقلب رأس الأحدث، فتخسر الانتخابات بسبب موقفها من القضية التي وهبت نفسها للدفاع عنها، ألا وهي قضية البدون.
-3-
ليس هناك زمن واحد يسير عليه السرد، وإنما ثمة أزمنة متعددة، بدءًا من الزمن الفيزيقي مرورا بالزمن النفسي الذي له تأثيره الواضح على الشخصيات، أما الزمان الفيزيقي فبعضه قديم أبعد من زمن السرد قد يعود إلى الاحتلال الأسباني للفلبين، والذي يذهب في سبيل مقاومته البطل خوسيه ريزال أو قريب نسبيًا يصل إلى حرب فيتنام التي اشترك فيها الجد وعاد مسلوب الإنسانية، وهناك زمن الاحتلال العراقي للكويت، وتأثيره على المكان وأشخاصه، ثم يأتي زمن عمل الأم في الكويت وهو سابق لزمن الحرب، وأخيرًا زمن عودة عيسى إلى الكويت وهو زمن يقارب زمن انتهاء الاحتلال، مع موت أمير البلاد. بالإضافة إلى الزمن الأسطوري كما تجلى في حكاية الأناناس. كل هذا التعدّد في الزمن وتشظيه، جاء هو الآخر كنوع من تفتيت الذات التي أراد لها المؤلف أن تلتئم، فتوزعت وانشطرت هويتها بين بلاد قابلته بوجوه متعددة، وطن عاشت فيه مع الأم لم يعترف بفلبينيته فنسبه إلى ذلك البلد الذي لم يقبله، وإن أعطاه ماديا ما يثبت وجوده لكن معنويا رفضه.
ليست اللغة المستخدمة بمعزل عن السياق العام للأحداث، فاللغة هي لغة تقريرية في المقام الأول، خالية من أية رموز أو دلالات أخرى خارج السياق الموضوعة فيه، يتحكم فيها الضمير الأنا، فهي أقرب للكتابة عن النفس، فالراوي يسرد بتقريرية وحيادية عن حياته وعن واقع من شاهدهم دون تدخل بل يكاد يكون هو بمثابة كاميرا يرصد ويسجل ما يراه من حوله، فالجملة الاستهلالية التي يبدأ بها النص عارية، تخلو من أية خصائص لغوية ما عدا استخدام الوظائف النحوية.
-4-
ويوازي السَّردُ ـ في مفارقة لها دلالتها ـ بين سَلْب الأهل والعشيرة لهُوية الحفيد، وبين سَلْبِ الأخ والشقيق لهوية الوطن باحتلاله وتشريد أبنائه، لا نقصد من الموازة أن الرَّاوي أراد لسلم القيم أن ينتصر، فاحتلال الكويت له أسبابه السياسية ورواسبها الموغلة في القدم، لكن أعتقد أن الراوي وازى بين الآثار النفسية التي أصابت أبناء الوطن بالشرخ، ولنا في موقف الأمير عند هبوطه من الطائرة بعد التحرير خير شاهد على حالة الاغتراب التي عانها في الوطن البديل حتى تمَّ التحرير، وهو ما عبَّر عنه أمام الكاميرات بـ»يلصق جبينه على الأرض يقبلها ما أن وطأت قدماه أرض وطنه. سقطت الحلقة السوداء المثبتة فوق غطاء رأسه الأبيض أثناء انحنائه، نهض، أعادها إلى رأسه»(190). دون التقليل من حالات مشابهة (نموذج الأديب إسماعيل الفهد الذي قضى سبع سنوات في الفلبيين، أو من قبيل حالات الأسر والاعتقال ثم الاستشهاد، كما هو بارز في نموذج الأب راشد (وإن كان الراوي ذكر أنه وقع أسيرا). وهو ما يقابله موقف عيسى بعد أن وَصل إلى الكويت باحثًا عن وهم أمه بأنه الحياة والمستقبل في بلاد الأب فيشعر كما عبَّرَ «في بلاد أمي كنتُ لا أملك شيئًا سوى عائلة، في بلاد أبي أملك كل شيء سوى عائلة»(303).
-5-
ليس ثمة شك في أننا أمام نص إشكالي في طرحه لموضوعه رغم ضدية أبطاله، وأن هاجس الهوية باختلاف صيغها السياسية والدينية، كان هو التيمة المهيمنة على النص وبدا النص منها وانتهى إليها، أعقبها الكثير من الخيبة والانكسار، للابطال في تحقيق ظفر معنوي، والخيبة والانكسار في ظني هما القيمة التي قدمها النص كنوع من الجدلية والإشكال مع أيديولوجيا الواقع المسيطرة، في رفضها لممارستها سواء التي فعلتها أيديولوجيا الاستعمار على المستويين: الفلبين، الكويت، أو تلك التي فعلتها الأعراف الاجتماعية القائمة على تفعيل النمط العشائري أو القبلي، برفضها واستهجانها وفضح انتهاكاتها على الصعيدين الغربي والعربي. الشيء الإيجابي الثاني هو طرح المسكوت عنه في المجتمعات العربية لا كنوع من التعرية، بل وضعه موضع المساءلة والمناقشة، لا الهروب منه أو حتى كجلد للذّات.
 
المصدر: صحيفة القدس العربي

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟