مراسلنا في القدس




سعود السنعوسي



نصير فالح، مراسلنا في القدس، أعني مراسل تلفزيون الكويت هناك. أحد أصدقاء زيارتي القصيرة إلى فلسطين. هل تسمعني؟ هل تقرؤني؟

جنون الخبر دفعني لأن أمسك بهاتفي أزمع مهاتفتك. أسألك: هل صحيح خبر موتك؟! ولكنك لن تجيب. أجابتني صورتك في هاتفي صمتا. أجابني الأصدقاء نيابة عنك: الله يرحمه.

كنت تسرق الوقت، في كل استراحة أثناء التصوير، تبعد المايكروفون. تحكي لي عن زيارتك الأخيرة إلى الكويت. عن أصدقائك هناك. عن مطعم السمك في المباركية وطبق الزبيدي وعن البحر وشارع الخليج. وعدتني بزيارة أخرى شريطة أن أكون في الكويت.

كنت، كغيرك من الفلسطينيين الذين غمروني بمحبتهم، أثناء عناقك، أحدّثني: "لا أريد سماع خبر استشهادك.. أريد لك حياة تليق بك في وطنك". فكرة الموت مرعبة بالنسبة لي، هيّنة، ربما، بالنسبة لكم، في وطن يتداول فيه الناس كلمة: "استشهد" كما يتداول كلمات يومية: "أكل.. شرب.. ذهب إلى العمل.. نام..". كنتم تتحدثون عن يومياتكم. كنت أحصي تكرار الكلمة: "قبل استشهاد نضال.. لم يكن نادر قد استشهد.. في الوقت الذي استشهد فيه مازن"، حتى صرت أنظر إلى وجوهكم، ترعبني فكرة رحيل أحدكم قبل أن يطمئن إلى تحقيق حلم قديم لوطن لا ينتمي إلى سواه. أنظر إلى وجوه صغاركم.. حمزة.. يامن.. عمرو ونائل. أطرد صورهم من مخيلتي كي لا أتذكرهم. كي يصبح الفقد أخف وطأة إذا ما سمعت خبر فقدان أحدهم.

نصير..
أنت في مكان أفضل. أليس كذلك؟

لست مضطرا بعد اليوم لأن تبحث عن منتج فلسطيني بين منتجات إسرائيلية أقسمت أن تموت دون شراء أيٍ منها. لست مضطرا لتدخين سجائر طعمها كالخشب المحروق تجنبا لسجائر "نظيفة"، قلت لي عنها: "تُقطع يدي قبل أن أشتريها". أنت هناك الآن. في أي مكان. أي مكان أفضل من مكاننا هذا. لا ينقصك شيء عدا مقدرتك على أداء واجب آمنت به. أدريك لست قادرا على أن تنقل صورة للعالم، وأنت الذي كررت القول: "يا زلمة! بدّي العالم كله يشوف شو عم بيصير فينا!".

أتذكر عزمك. تخبرني: "اليوم.. صورنا لتلفزيون الكويت قطعة أرض فلسطينية استولى عليها المحتل في القدس.. خلي العالم يشوف!".

كنتَ تعوّل على العالم..
كنتُ أعوّل على عزمك..
كنتُ أخاف استشهادك..

في يومي الأخير كنت تنتظرني في الفندق. سلمتني أقراص مدمجة لتغطية زيارتي إلى فلسطين. عانقتني طويلا. كنت تربّت على ظهري تقول: نلتقي في الكويت. لو كنت أعلم.. لأطلتُ العناق..

وعدتني أن تكرر الزيارة.. مطعم السمك.. طبق الزبيدي.. لقاء الأصدقاء..
وعدتك أن..
نوبتك القلبية حالت دون أن..

والآن نسيتُ أن.. أسألك يا "زلمة".. هل صحيح خبر موتك؟


نشرنت في آراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟