حين قابلته .. قابلت الكويت



سعود السنعوسي:

حين أعتاد على رؤية أشخاص ما، من خلال شاشة التلفزيون، ولسنوات طويلة، تصبح هذه الشخصيات مع مرور الزمن، بالنسبة لي، مرتبطة في ذلك المكان فقط، أي جهاز التلفزيون، وكأنها تنتمي إليه وتعيش في داخله، بين تفاصيله وأجزاءه الدقيقة. وإذا ما قابلت شخصية تلفزيونية في مكان ما، كالشارع مثلا أو السوق، يخيّل لي بأنها قد خرجت للتو من التلفزيون، وأنا لا أعني مبنى التلفزيون التابع لوزارة الإعلام، بل أعني جهاز التلفزيون ذلك الذي لا يخلو منه بيت، وكان أول سؤال يتبادر إلى ذهني حين أقابل، بالصدفة، ممثلا أو مذيع أخبار هو: تراه قد خرج للتو من الشاشة أم انه في الطريق إليها؟ تدور هذه الأسئلة مع الشريط المصور الذي تعرضه الشاشة العريضة المعلقة على جدار مخيلتي والتي لا يراها أحد سواي. أشاهد إحدى هذه الشخصيات، وبحركة "كرتونية" ينحني قليلا كي يخرج رأسه من الشاشة ثم يديه ورجليه حتى يصبح بكامل جسده على أرض الواقع، ثم يحدد وجهته ويرحل ليعود في آخر النهار إلى حيث أتى. هذا ما كنت أتصوره، عندما كنت طفلا صغيرا، كنت أعتقد بأن ماما أنيسة مقدمة برنامج "ماما أنيسة والأطفال" ومحمد الفارسي مقدم برنامج "الفنان الصغير" ونعمان أحد أبطال "افتح يا سمسم" وغيرهم من الشخصيات التلفزيونية، ما هي إلا شخصيات محشورة داخل هذا الجهاز، وإذا ما تمكنت من الخروج لسبب ما فلابد لها أن تعود إليه ثانية. كانت تلك التخيلات تصاحبني في فترة طفولتي المبكرة، ولم تستمر معي بالطبع، إلا ان الفكرة ما زالت تحتل لها حيّزا في ذاكرتي، تنشط كلما قابلت شخصية مشهورة في مكان ما.


في أحد الأيام، كنت في أحد أشهر معارض الإلكترونيات في الكويت وأكبرها، أبحث عما هو جديد من أجهزة إلكترونية. أتنقل بين الأقسام هنا وهناك، وبعد أن وجدت ما يناسبني، أخذت أبحث عن الموظف المختص كي يساعدني في الحصول على ما كنت أرغب بشرائه، أخذت ألتفت حولي، وبدلا من أن تستقر عينيّ على أحد الموظفين، استقرت على رجل كان يسير برفقة زوجته وشاب وفتاة في مقتبل العمر. تسمرت في مكاني، ووجدتني لا أستطيع أن أبعد نظري عن ذلك الرجل. وبالصدفة، كان يسير بصحبة عائلته في قسم شاشات التلفزيون. أخذت أراقبه عن بعد، ثم ألتفت للشاشات التي كانت تنتشر من حوله، نشطت تلك الفكرة القديمة، ثم تساءلت: "تراه من أي واحدة خرج؟"
امتلأ المكان برائحة البحر، وأخذت الألوان تتغير شيئا فشيئا من حولي، كان الرجل يسير ويضبغ الأرض والجدران والسقف بألوان علم الكويت، الأسود والأبيض والأحمر والأخضر.
أتذكر المرة الأخير التي شاهدته فيها عبر شاشة التلفزيون، كان يتغنى باسم الكويت في إحدى الأوبريتات الوطنية، وقبلها بحوالي عام، كنت أحتفل معه، رغم وجودي في غرفتي أمام شاشة التلفاز بعيدا عنه، إلا ان شيئا ما بداخلي كان قريبا منه، يشاركه فرحته بنيله جائزة الدولة التقديرية، والتي كان يستحقها عن جدارة لما قدمه لوطنه وأبناء وطنه. فكرت أن أقترب منه لألقي عليه التحية، ولكني شعرت بالحرج، لم أرغب باختراق خصوصيته هو وأسرته. أكملت تسوقي بعد أن صرفت النظر عن فكرة إلقاء التحية، ولكنني لمحت الشاب والفتاة اللذان كانا برفقته يستقلان السلم الكهربائي للوصول إلى الطابق الثاني. هنا فقط عادت الفكرة، وشعرت أن الاقتراب من هذا الرجل أصبح أسهل، ولكنه في تلك الأثناء كان قد اختفى. أخذت أبحث عنه هنا وهناك، كأني فقدت شيئا كان بحوزتي منذ لحظات، إلا ان كل شيء من حولي كان يؤكد أنه لم يعد موجودا. توقفت لحظات عند شاشات التلفزيون المعروضة، أنتظر خروجه مرة أخرى. سألني أحد الموظفين: كيف يمكنني أن أساعدك؟ هل أسأله عن رجل كان قد خرج قبل دقائق من إحدى هذه الشاشات ثم عاد إليها؟! نسيت أمر ذلك الرجل، أو تناسيته، ثم توجهت نحو البوابة التي تؤدي إلى الخارج، وكانت المفاجأة، حيث وجدته وزوجته يجلسان على كراسي مخصصة للعملاء، حيث تُسلّم المشتريات هناك. لم أدع للفرصة فرصة كي تفوتني هذه المرة، وتقدمت نحوه بتردد. مددت له يدي مصافحا، ثم ألقيت التحية، وسألته ان كان قد قام بتجهيز عمل وطني، كما عودنا هو والموسيقار غنام الديكان، لشهر فبراير القادم، ابتسم بأسف وقال: "لا والله .. ماكو شي هالسنة". وجهت إصبعي نحو صدري وقلت: "إحنا الخسرانين"، ثم قلت له أني في صباح كل يوم، وفي طريقي للعمل، اعتدت أن أستمع إلى "قالت الريح للغيوم الثقيلة"، وهي إحدى أغنياته الوطنية المحببة إلي. ثم قلت له مداعبا: "أنني قد لا أذهب للعمل إن لم أستمع لتلك الأغنية صباحا". ضحكا، هو وزوجته، في حين كانت يدي لا تزال تصافح يده. شعرت أن لدي الكثير لأقوله، ولكن شيئا ما قد منعني، سحبت كفي وختمت كلماتي بالدعاء لله عز وجل أن يطيل في عمره وأن يلبسه ثوب الصحة والعافية.


كانت تلك الكلمات القليلة هي التي قلتها له في ذلك اللقاء القصير، أما في ما تبقى لي من مساحة في هذه الصفحة، سأسطر جزءا من الكلمات التي ابتلعتها في ذلك اليوم لسبب أجهله:
عبدالعزيز خالد عبدالعزيز المفرج
أستاذي الفاضل، الذي علمني الكثير دون أن ألتقيه، والذي لقنني دروسا عظيمة دون أن يراني، معلمي الذي نقش فيّ منذ الصغر أسمى معاني الحب والوفاء والولاء لهذه الأرض، سوف لن أبالغ إذا قلت أنك أحد أهم الرجال الذين غرسوا فينا مفاهيم الحب لهذا الوطن. أنت من أنشأ جيلا كويتيا كبر وترعرع على صوتك الذي نقل رسالتك السامية بوضوح وجلاء، تلك الرسالة التي استقرت في نفوسنا، حب الكويت، الذي نحمله معنا حيث ذهبنا. وصوتك الذي يسكن في أعماق أعماقنا، نستحضره كلما شاهدنا أبراج الكويت الشامخة وعلمها. وإذا ما عادت بي الذكرى إلى الوراء، لا أشاهد من وطني سوى صوّرا لبابا جابر وبابا سعد وعلم الكويت وأبراجها و .. صوت شادي الخليج.
كان هذا باختصار شديد ما كنت أود أن أذكره لك في ذلك اللقاء السريع، ولكن حروفي لم تسعفني. وبقي أمر آخر يستوجب علي ذكره، وهو أن هذا الشعور ليس شعوري وحدي، بل ما أنا سوى شاب يمثل جيلا كاملا يعتبر نفسه "آخر الأجيال المحظوظة" التي تلقت دروسها الوطنية على يد أستاذ كبير يدعى: عبدالعزيز المفرج أو كما يحلو للكويت بأسرها أن تناديك بـ"شادي الخليج"، ذلك الرجل الذي حين قابلته .. قابلت الكويت.


نشرت في:


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟