أحلامنا الفقيرة!



سعود السنعوسي:

كغيري من أبناء وطني، أحن لزمن كان فيه كل شيء أفضل، أجمل وأصدق. كغيري من الزملاء الذين ما توقفت أقلامهم عن الكتابة حول شوقهم إلى ماضينا القريب، بل القريب جدا، ومقارنتهم لكل شيء بين اليوم والأمس. لست أتحدث عن شوق الأجداد لبيوت الطين والأسواق القديمة ورائحة البحر، بل عن زمن أقرب من ذلك بكثير. أتحدث عن نظرة أبناء جيلي الذي هو آخر الأجيال التي شهدت جزءا – وان كان صغيرا – مما تبقى من الزمن الجميل. نظرة ذلك الجيل ومقارنتهم لكل شيء بين اليوم وماضيهم القريب، وكأننا صنعنا في ذلك الماضي ما لم يصنعه أحد قبلنا.
ولدت التساؤلات التي سأذكرها في هذا المقال قبل عام ونيف، وتحديدا في فبراير 2008، وذلك أثناء استماعي إلى أوبريت "صباح الوطن" أثناء قيادتي للسيارة. الأوبريت بشكل عام جميل لولا بعض الشطحات التي لم نعهدها من شاعر العمل المخضرم بدر بورسلي والملحن مشعل العروج. لست هنا لأكتب موضوعا نقديا حول الأوبريت، بل حول ما أثاره ذلك العمل من تساؤلات في مخيلتي.
يتملكني إحساس مثير عند استماعي لأي أغنية وطنية، القديمة منها بالذات. وقد لا تترك أي أغنية عاطفية ذلك الأثر الذي تتركه الأغنية الوطنية في وجداني. وكنت أؤمن بكل كلمة ترد في الأغنيات الوطنية وكأني أستمع إلى كلام مقدس غير قابل للنقاش، وأي شخص يرى غير ذلك ما هو إلا خائن يستحق الإعدام رجما بأشرطة الكاسيت و سيديات الأغاني الوطنية!
أجدني اليوم في حيرة من أمري، فلم أعد أتقبل أي صفة - مهما كانت حسنة - لا تنطبق على بلادي. فقد بالغنا كثيرا إلى درجة ان اننا لم نعد نعي ما نقول. ليتنا نكتفي بوصف مقدار حبنا وعشقنا لأوطاننا فحسب، بدلا من بعض المبالغات الكوميدية التي تحويها بعض أغانينا الوطنية.
بينما كنت أقود سيارتي، جاءني صوت المجاميع في هذا العمل تردد برتم سريع: "خططنا الشوارع، بنينا المدارس، بدينا المسير، حولنا بحرنا بفعل التقدم لماي غدير، زرعنا الصحارى وصرنا نتبارى للحلم الكبير"، هنا وجدتني أردد: كلام جميل وصحيح، ولكن، ما هو ذلك الحلم الكبير الذي يتحدثون عنه؟ وقبل أن أتمكن من التعرف على هذا الحلم، حاصرتني أصواتهم مجددا: "سوينا شي ما صار .. صرنا محط الأنظار .. نزل علينا النور .. هالنور من الدستور .. والعالم المبهور .. يشوف هالشعب الصغير وايد كبير". أحقا "سوينا شي ما صار" أم تراهم يبالغون، وعن أي نور وعالم مبهور يتحدثون؟ إلا إذا كنا نعتبر بعض الدول المجاورة التي كنا نتشطر عليها عالما بحد ذاتها. ثم يتمادون أكثر: "صرنا للدنيا علامة" ثم: "دربك خضر يا وطن ومستقبلك باهر". يلح سؤال داخل رأسي يأخذني بعيدا، هل بلادي حقا بهذه الصورة الجميلة، وهل مستقبلها مطمئن إلى هذا الحد؟ ثم تأتيني مجموعة من الأسئلة مصدرها السماعات من حولي: "أكو أحلى من الكويت؟ أكو أجمل؟ أكو أغلى؟ أكو أبهى؟" وجدتني أجاوب على أغلب الأسئلة بنعم .. نعم .. نعم! هناك العديد من البلدان أحلى من بلادي وأجمل وأبهى، أتمنى لها الخير كما أتمنى أن تصبح بلادي أفضل منها جميعا، ولكنني لن أخادع نفسي لأردد بغباء: لا ليس هناك أحلى ولا أجمل ولا أبهى!
تزداد الإيقاعات سرعة ليردد المجاميع أغنية أشعرتني بأنني أتجول بين باعة في سوق شعبي، أو سوق لبيع الخضار أو السمك حيث ينادي أصحاب البسطات أو الأكشاك على الزبائن: "شوف شوف شوف حرية بلدنا شوف شوف شوف .. شوف شوف واقرأ دستور الوطن شوف شوف شوف شوف .. كافي بس هذا فخرنا .. شوف واسمع يا زمن شوف شوف شوف شوف!" علام كل هذه الضجة؟ لست أدري.
أعود لما تطرقت له في بداية المقال، الشوق للماضي، أو للزمن الذهبي كما يطلقون عليه. كنت من أولئك الذين لا يكفون عن الحديث عن الفرق بين الأمس واليوم، وإذا ما سئلت عن أحلامي التي أتمنى أن تتحقق لبلادي وجدتني بكل ثقة أتحدث عن الحلم الأول وهو أن تعود الكويت كسابق عهدها. ويسأل سائل: أي عهد تقصد، وبكل ثقة أتحدث عن مستوى الفن والأغنية الكويتية الأصيلة والفرق بينها وبين ما نسمعه الآن ثم أعرج في حديثي إلى ما كنت أحسبها انجازات لم يسبقنا لها أحد، بدء بالنهضة العمرانية التي شهدتها الكويت، مرورا بالحركة المسرحية، وصولا إلى مستوى منتخبنا الوطني. معتبرا تلك الأمور فقط هي ما ينقصنا الآن!
نعم، كانت تلك انجازات بالنسبة لدولة حديثة بدأت للتو أولى خطواتها نحو بناء دولة عصرية، ولكن، ما حدث بعد ذلك هو ان عقارب الزمن قد توقفت، وبعد أن أدركنا استحالة تقدمها أخذنا نحلم بعودتها إلى الوراء، لتصبح العودة إلى الماضي هي آخر طموحاتنا وأكبر أحلامنا، كما ان بعضنا لا يكف عن التباهي بالحديث حول الزمن الذهبي، والبعض الآخر – وأنا أحدهم وحتى وقت قريب - يتمنى العودة إليه، ذلك الزمن الذي نسميه زمنا ذهبيا بينما هو في حقيقة الحال وبالمقارنة مع ما توصل إليه العالم لا يستحق سوى أن نطلق عليه زمنا حجريا! واكتشفت بأن أحلامنا باتت فقيرة، تشبهنا في كل شيء، أحلام سطحية لا فرق بين تحقيقها على أرض الواقع وبين تخزينها في أدمغتنا بصورة أحلام تافهة. استوعبت مؤخرا ان المساحة الحقيقية التي نشغلها في هذا العالم هي مساحة لا تذكر، أو لا ترى بالعين المجردة، بل يصعب رؤيتها بالميكروسكوب! وان ما قدمناه لوطننا وللعالم من حولنا شيء لا يستحق الذكر. وانه ومن خلال الإمكانيات التي نملكها كان باستطاعتنا أن نقدم ما هو أكبر وأهم وأنفع.
لك أن تسأل أي شخص بسيط تراه في الشارع عن أهم وآخر انجاز أو مشروع تم إنشاءه في الكويت وستسمع العجب. اننا نشعر بشموخ وفخر ليس لهما مثيل إذا ما مررنا أمام مجمع تجاري ضخم ذي تصميم جميل، وكلما كبر حجم المجمع زاد شعورنا بالاعتزاز. ومن يلحظ تباهينا بتلك المجمعات لن يصدق انه لن يعثر بداخلها على شيء سوى محال ملابس وسينما ومطاعم ومقاه! وانه سيكون محظوظ لو عثر على "كشك" صغير يحتوى على بعض الكتب! ستستوعب أن أكبر مصانعنا وأنجح مشاريعنا غذائية، تضاعف الأوزان التي نحملها أينما ذهبنا بصورة كروش منتفخة، وتقلص أحجام عقولنا لتصبح بحجم ووزن علبة كبريت فارغة، أو مليئة بتراب لا يصلح لزراعة حبة فول!
مرة أخرى، علام كل هذه الضجة؟ ونحن لم نصنع لدولة حديثة سوى مبان من مستشفيات وجسور باتت أطلالا؟ إلام هذا الانتظار للعودة للماضي بينما يتسابق العالم لنيل حلم أفضل بالمستقبل؟ ومتى سنقدم لبلدنا ما يستحق؟ وهل سنقدم لمن هم حولنا ولو جزء بسيطا مقابل ما منحوه لنا؟
العالم من حولنا في سباق، بعض الدول تتسابق في الفضاء الخارجي لتغرس علمها في أبعد نقطة عن الأرض، أو لتسجل الاكتشافات والاختراعات باسمها ونحن نكتفي بسماع الأخبار صدفة. وبينما العالم يتحدث اليوم عن الوصول لفك الشفرة الوراثية لفيروس الإيدز، نتحدث نحن – في الكويت – عن منتخبنا الوطني وتدهور مستواه!
ان هتافاتنا وغنائنا لأوطاننا وتصويرها بأنها كاملة وكأنها الجنة كما جاء في بعض لوحات أوبريت "صباح الوطن" وبعض الأعمال الوطنية الأخرى ما هو إلا كلام فارغ. فليست الوطنية أن نقول ما هو ليس موجود بأوطاننا، بل أن نوظف تلك الأغنيات لتقديم شيء من شأنه أن يسمو بنا وبأوطاننا لمستوى أفضل.



نشرت في:


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟