دياثة وطنية!





سعود السنعوسي:

حين أشرع في الكتابة عادة حول موضوع يخص وطني لا أحتاج لشيء أكثر من جهاز الكمبيوتر المحمول، فالأفكار موجودة داخل رأسي، والمشاعر الوطنية تجري في الشرايين كريات دم حمراء وبيضاء.. وخضراء وسوداء، بألوان علم بلادي. أحول تلك الأفكار والمشاعر بواسطة أناملي إلى حروف على الشاشة أمامي بكل سهولة. أما اليوم، وفي ظل تلك السحابة السوداء التي حجبت نور الشمس عن بلادي دون أن ترسل قطرة مطر واحدة تغسل النفوس فلا أجد ما يحفزني على الكتابة، وكأن رأسي خاليا، بل هو كذلك!
أعصر الأغاني والقصائد الوطنية، وأمزجها مع قطرات من بحر الكويت، وأضيف إليها بضع قطرات من عرق أجدادي، وأقوم بتسخين ذلك السائل على صفيح تمده شمس الكويت بالحرارة، ثم أحقنه في وريدي، علني بذلك أنشط الخلايا الوطنية في داخلي، بعد أن كاد يضعف تأثيرها إثر ما يحدث حولي من جنون يقتل أسمى المفاهيم الوطنية.
هل أبالغ إذا قلت بأننا في أسوأ وضع تشهده البلاد؟ لا إطلاقا. فالطاعون الذي أهلك العباد في الماضي كان مرضا قد جاءنا من الخارج، لم يطل البقاء، رحل بعد ما حصد ما حصده من أرواح، ثم ترك الكوت أو الكويت ليستمر من بقي على قيد الحياة في بناء الوطن. أزمة المناخ الشهيرة رغم صيتها الذائع لم تصب سوى الاقتصاد الكويتي، أي الأموال، والأموال "تروح في ستين داهية". الغزو الغاشم، كما هو واضح من التسمية، كان غزوا، جاءنا من الخارج، وما يأتي من الخارج يمكن إعادته إلى حيث أتى، إلى الخارج. ولكن، الطاعون الجديد نشأ في الداخل، إما أن يقتلنا وإما أن نقتله وندفنه في ذات المكان الذي جاء منه، في الداخل. ظهر الطاعون الجديد بيننا ليسوق الغزاة الجدد مصير الوطن إلى حيث يشاءون. الأزمة ليست مالية ولا خطر يأتينا من مكان بعيد، بل هي أزمة داخلية، وطنية، أزمة انتماء إلى وطن!
ان ما يحصل في الكويت، من فتنة وتفرقة عنصرية وطبقية وطائفية أمر في غاية الخطورة، لا أبالغ ان قلت ان كل تلك الأمور تهدد استمرار دولة عظمى، فكيف بدولة صغيرة كالكويت. والأدهى من ذلك وأشد مرارة هي ردود الأفعال مقابل ما تبثه بعض الفضائيات والصحف وبعض الأشخاص من سموم، فبين فئة مؤيدة وأخرى معارضة طفت على السطح فئة جدية ليست صغيرة على الإطلاق. تلك الفئة التي لا موقف لها، وكأن الأمر لا يعنيها بتاتا، واكتفت بمتابعة ما يجري من أحداث كما تتابع مسرحية تافهة من مسرحياتنا الحديثة، تجدهم يرسلون الرسائل القصيرة يحضونك على ترك ما بيدك والتوجه إلى شاشة التلفاز بأسرع ما يمكن قبل أن يفوتك ما تبثه تلك القنوات، ومن ثم لا يكتفون بذلك، بل يقومون بنشر تلك السموم ونقلها من الفضائيات إلى الإنترنت لتصبح في متناول الجميع، فبعد أن شبعوا ضحكا أرادوا أن يضحكوا من فاته المشهد، وليتهم بذلك يبحثون عن حل لتلك المصيبة، بل هم ينشرونها لمجرد الضحك، ولا شيء أكثر من ذلك. هم يرونها كوميديا ليس إلا. فرجة "توسع الصدر". يضحكون .. تتعالى أصوات ضحكاتهم .. يقهقهون وكأن الأمر لا يعنيهم، مستمتعين بالألفاظ والأوصاف.. اللفو، الهيلق، الحبربش، الساقط واللاقط، الخمة، المرتزقة، الكلاب، الطراثيث!
مشكلة هؤلاء الناس انهم لا يعون خطورة ما يحدث، وليت الأمر يقف عند فقدان الوعي، بل ان بعضهم أو أغلبهم لا غيرة لديهم، أو ضمرت غيرتهم لسبب ما وبدأت تتلاشى شيئا فشيء، ليتحرروا من الشعور بالانتماء الوطني ليدخلوا في حالة من الدياثة الوطنية. لا أود إقحام نفسي في مسائل ليست من اختصاصي قد تدخلني في دائرة الخطأ دون أن أعلم، ولكن، كلنا يعلم من هو الديوث، ولمن لا يعلم، هو كما جاء في الأحاديث الشريفة، من لا يغار على أهله ومحارمه، وهو الذي يرى العار في أهله ولا يمنعه. هذا بالنسبة للمعنى المتعارف عليه للديوث. ولكن ما نعانيه اليوم هو ببساطة نوع جديد من الدياثة، وهو الدياثة الوطنية، وان لم يكن هذا المسمى متداولا من قبل، فانني أعتقد بأن مفهوم "الدياثة الوطنية" سيصبح متداولا في الأيام القادمة، بعد أن تموت غيرتنا على وطننا، بحيث لا نكتفي بالصمت مقابل الإساءات التي تأتينا من الخارج، لنبدأ، نحن، في الداخل برشق أنفسنا وتقسيم الشعب إلى فئات أرقاها "المرتزقة" وأدناها "الطراثيث"! وإذا كان ضعف الغيرة على المحارم والأهل علامة على سقوط الرجولة، فضعف الغيرة على الوطن ومواطنيه هو علامة على سقوط الوطنية والولاء والانتماء إلى هذا الوطن.
كانت غيرتنا على الكويت شديدة إذا ما تعرض إليها أحدهم بسوء فعلا أو قولا، ولم نكن نحتمل انتقادا لكويتنا حتى وان كان – في بعض الأحيان - انتقادا في محله. وكان الغضب يستوطن نفوسنا إلى درجة تجعل الكتاب في الصحف والإعلاميين في أجهزة الإعلام يقفون موقفا واحدا ضد أي فضائية أو صحيفة أو جهة تسيء للكويت وشعبها، أما وما يحدث اليوم على مرأى ومسمع من الجميع هو والله ما لم نكن نتصوره أبدا.
ان المشكلة تجاوزت أشخاص بأسمائهم يظهرون عبر وسائل الإعلام بأفكارهم وآراءهم التي تمزق الوحدة الوطنية لتصل إلى شريحة من الشعب لم يعد يعنيها أي شيء بعد أن أصبح كل شيء عادي في هذا البلد حتى الإساءات واستخدام أقذع الألفاظ أصبح تعبيرا عن حرية الرأي.
ان "إغلاق" أو إيقاف تلك الفضائيات والصحف أمر في غاية السهولة، ولكن "تفتيح" العقول وتحريرها من تلك الأفكار أمر في غاية الصعوبة فهل ندرك ذلك؟
اللهم نسألك أن تحفظ الكويت من بعض أبنائها.

نشرت في:
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟