بلد يغص بالخبراء!

سعود السنعوسي:



 ليست لدي أي مشكلة مع أي من أولئك الذين أختلف معهم في الرأي، طالما أن آرائهم تأتي وفق قناعاتهم الشخصية، ولكن مشكلتي، أو بالأحرى، مشكلة هذا البلد مع أولئك الذين يتحدثون ويبدون آرائهم في ما لا يفقهون. لست أتحدث عن أشخاص بعينهم، فإن من يتابع وسائل الإعلام من قنوات فضائية وإذاعات وصحف، يخرج بفكرة واحدة، هي أن هذا البلد يغص بالخبراء الذين لا يجدون عملا سوى التصريح بآرائهم! فتجد الكثير من الشخصيات الإعلامية والكتاب على كثرتهم يفقهون في كل الأمور، أو هكذا يبدون. تجدهم يحللون ويكتبون في أي موضوع، ليس المهم إلمامهم وثقافتهم أو حتى اهتمامهم فيما يتحدثون، بل ان المهم بالنسبة إليهم هو الكتابة أو الحديث حول ما يهم الشارع ليظهروا في الصورة فحسب، أي كما يقول المثل الشعبي: حشرة مع الناس عيد. وهذه الحالة تجاوزت الشخصيات العامة لتدرك بقية الناس، لتجد أخيك في البيت، وصديقك في الديوانية، وزميلك في العمل، جميعهم يحللون ويتحدثون في كافة الأمور بحماسة تفوق الوصف. ولأكون أكثر عدلا وصراحة مع نفسي ومعكم، سأقول بأني لست بمنأى عن أولئك الذين دسوا أنوفهم فيما لا خبرة لهم فيه، عمدا أم جهلا. ففي بدايتي، أو بداية بدايتي، بما اني لازلت في بداية الطريق مع القلم، كنت أبحث عن تلك المواضيع الي تهم العامة، لأتحدث وأكتب آرائي حولها. وهكذا سلمت مركبي للموجة دون بوصلة وشراع أو مجاديف، لأتحدث عن موضوع سياسي لا أفقه به، أسطر خرافاتي مستغلا تلك المساحة التي لم يكن يهمني في البداية سوى ملئها بأي شكل من الأشكال، وأحمد الله انه لم يكن هناك من يؤمن بآرائي، فالموقف كان سيصبح محرجا بحق. لم أرتكب هذا الخطأ في حق نفسي وغيري في الكتابة فحسب، بل حتى في الحديث مع الأصدقاء في لقاءاتنا، كأن يكون الحديث مشتعلا في الشأن الرياضي مثلا، أجدني دون وعي وقد دسست أنفي في حديثهم بكل ثقة رغم اني لم أكن أعرف أن "التسلل" في كرة القدم هو ذاته الـ Offside التي يقولها المعلق بالعربية أحيانا، وبالإنجليزية أحيانا أخرى! ورغم جهلي وأخطائي فاني أشعر بشيء من الراحة كوني تعلمت من أخطائي في وقت مبكر جدا فيما لا يزال الكثير ممن قطعوا مشوارا طويلا في الإعلام والصحافة لا يزالون يرتكبون هذه الجريمة.
في احتفالية صغيرة أقامها بعض المثقفين في مصر، في آخر عيد ميلاد في حياة الروائي الكبير نجيب محفوظ، في ديسمبر 2005، سأل الأديب يوسف القعيد المحتفى به، نجيب محفوظ، بعد أن قال الأخير أن مصر "بتعاني وربنا معاها"، كيف تخرج مصر من هذه المعاناة؟ أطرق محفوظ أربع أو خمس ثوان قبل أن يجيب، وكنت أنتظر أمام شاشة التلفزيون أجابته كما كان ينتظرها كل من كان حوله في تلك الليلة. التفت محفوظ للقعيد ثم قال: "انت فكرك أنا عارف تخرج إزاي وما قولتش؟!" هكذا وبكل بساطة، نجيب محفوظ، الروائي الكبير الذي من خلاله عرف العالم جانبا خفيا من عوالم مصر المعاصرة بحواريها وأحياءها الشعبية وناسها وعاداتهم، كما قام الفراعنة بتعريف عظمة تاريخ هذا البلد، يرد بهذه الإجابة المختصرة البسيطة دون خجل أو حرج، ودون أن يدعي معرفة ما لا يعرف.
وفي الإطار نفسه، أذكر لكم موقفا آخر حدث منذ ما يربو على الخمسة وعشرون قرنا في الصين، مع كونفوشيوس الفيلسوف، حين مر على صبيين كانا يتجادلان حول الوقت التي تكون فيه الشمس أقرب للأرض، قال الأول ان الشمس تبدو أكبر في الصباح، لذا فإنها تكون أقرب في هذا الوقت، ولكن الصبي الآخر رفض ذلك مبررا ان الشمس تكون أشد حرارة وقت الظهيرة فهي بلا شك تكون أقرب في ذلك الوقت. وعندما سألا الحكيم الصيني عن ذلك، اعترف لهما بأنه لا يعرف الجواب! نعم، كانت تلك إجابة الرجل الذي منحه الصينيون لقب الممثل الأسمى للثقافة الصينية، ذلك الرجل الذي أجاب حين سئل ذات يوم عن المعرفة بتلك الإجابة البسيطة "قل إنك تعرف عندما تعرف، وقل إنك لا تعرف عندما لا تعرف، هذه هي المعرفة الحقيقية".
لو أعدنا ترتيب الأمور، ليقف كل في مكانه، ولتتحدث كل شخصية إعلامية في مجالها، وليكتب كل صاحب قلم فيما هو ملم به، أي لو يهتم كل صاحب صنعة بصنعته دون أن يتطفل على ما لا شأن له به، فلا يكتب في السياسة إلا من يفقه بها كي لا يتوه ويتيهنا معه في دهاليزها، وهكذا، يعالج الاقتصادي الشؤون الاقتصادية، ولا يفتي في أمور الدين إلا علماء الدين الأكفاء، وذات الموضوع يطبق في كافة أمور الحياة الأخرى التي تهم الإنسان كالثقافة والفن والرياضة والمجالات الأخرى، ولا يمنع أن يتحدث الشخص في أكثر من شأن، شريطة أن يكون ملما بما ينوي الخوض به.
إذا ما سرنا على هذا النهج فقط، ستتضح الرؤية، وسنسلك الطريق الصحيح نحو ما هو أفضل لمستقبلنا ومستقبل بلادنا، بعد أن تقنن تلك الفوضى المتمثلة في التطفل الذي نمارسه في حياتنا اليومية بما ليس لنا شأن به، ليختلط الحابل بالنابل، ولنجد أنفسنا في واد والحقيقة في واد آخر.
 
نشرت في:
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟