قليل من الاحترام للأرض


سعود السنعوسي:

"ترابك احنا نبوسه .. لو يحصل ما ندوسه .. يالله عساك محروسة .. يا ديرتي يا كويت".


كانت تلك الكلمات - لمن لم يسمع بها من قبل - من أغنية "نبع الوفى" التي غناها ولحنها الفنان الكبير سليمان الملا، وصاغ كلماتها الشاعر الجميل ساهر. أتذكر تلك الأغنية وأجدني أرددها في سري كثيرا رغم مضي أكثر من اثنين وعشرين عاما على بثها أول مرة. لماذا لا أزال أتذكرها وأرددها؟ لأنها تحكي بما أشعر به تماما، هكذا وبكل بساطة.
كانت المرة الأخيرة التي تذكرت بها تلك الكلمات ودندنت بها منذ أيام قليلة فقط. كنت في سيارتي، منتظرا ضوء إشارة المرور الأخضر ليأذن لي بالعبور. وكان أحدهم جالسا بسيارته الأنيقة إلى جانب سيارتي، ناحية اليمين. قام بفتح زجاج نافذة السيارة، فأطل برأسه خارجا، ثم: خخخخخ تف! ثم همس سليمان الملا بأذني: ترابك احنا نبوسه .. لو يحصل ما ندوسه!
من المناظر التي تثير الاشمئزاز، والأصوات النشاز المقززة، والأفعال المقرفة، والممارسات المشينة، تلك التي تحدث ونسمعها ونراها كل يوم، حتى أصبحت بالنسبة للبعض شيئا مألوفا، وكأن فاعلها يمارس طبيعته البشرية بالتنفس أو النوم أو الأكل!
زجاج نوافذ السيارة، بالنسبة إلي، كشاشات التلفزيون من حولي. فمن خلاله، أجد نفسي مجبورا على متابعة ورصد كل ما يجري أمامي في الشارع أو في تلفزيون الواقع من دون كاميرات. ما أن أنطلق بسيارتي في شوارع بلادي حتى تقفز أمامي، ومن خلال تلك الشاشات، بعض الأفعال المزعجة التي لا بد من حدوثها قبل أن أنهي أيا من مشاويري. أحدهم يبصق في وجه بلادي على مرأى ومسمع الناس من حوله، فيما يرمي الآخر عقب سيجارته المشتعل في الشارع، محافظا، بفعلته تلك، على منفضة سجائره وسيارته نظيفة على الدوام. أما تلك الأنيقة، صاحبة السيارة المغناطيسية التي تجذب خلفها السيارات المتنافسة طابورا طويلا، رغم أناقتها واللطف البادي عليها، تفتح زجاج سيارتها دون اكتراث لتطلق مناديلها الورقية في الهواء محلقة كما حمام السلام الأبيض بين السيارات في احتفالية توديع الأخلاق واحترام الذوق العام!
هذه النماذج هي نفس النماذج التي نراها في الخارج كل صيف، بل نفس الأشخاص، في أوروبا وأمريكا وآسيا وباقي قارات العالم ودوله، باستثناء العربية. نراهم في كل مكان. في الشوارع والمقاهي والمطاعم ودور السينما والأسواق، هناك، يحترمون الأرض التي يسيرون عليها، يطبقون القوانين، ويحافظون على نظافة الأماكن من حولهم وكأنهم في بيوتهم! تجد المدخن منهم في المطارات العالمية يكاد يسقط من شدة حاجته لتدخين سيجارة، ورغم ذلك يضطر إلى "بلع" حاجته في صمت، والانتظار حتى يصل إلى الأماكن المخصصة للتدخين، فيما نجد المغادر والعائد وعامل النظافة والشرطي في مطار الكويت الدولي يستندون على عمود كبير تتوسطه علامة "ممنوع التدخين" ينفثون الدخان ويجمعون حولهم الرماد، وكأن العبارة التي فوق رؤوسهم تقول: يرجى التدخين!
في الخارج، لا نرى "الأوادم" يفعلون مثل تلك الأفعال، لأن لديهم ما يردعهم عن ذلك. فالناس هناك، ان لم ينههم دينهم عن تلك الممارسات، فعاداتهم كفيلة بذلك، أو أخلاقهم واحترامهم للذوق العام، وقناعتهم بأهمية احترام القانون والحفاظ على الممتلكات العامة. ولو جاء من يشذ عنهم ليفعل كما يفعل الناس في بلادي من اعتداءات صارخة على الذوق العام والقانون، فنظرات الناس من حوله كفيلة بأن تردعه، ناهيك عن النصوص القانونية "المقدسة" التي نقرأها داخل الحافلات والقطارات والمطارات والأماكن العامة، والتي تبين الجزاءات والعقوبات التي تقع على من يخالف التعليمات، كالتدخين في غير الأماكن المخصصة لذلك، أو رمي المخلفات أو حتى البصق على الرصيف!
أتساءل، بينما أقود سيارتي صباح كل يوم متجها إلى عملي، وعندما أشاهد أولئك الذين يرتدون الأصفر حاملين مكانسهم بين أيديهم، بين الشوارع وعلى الشواطئ، ماذا لو قرروا في يوم ما، وبشكل فاجئ، الرحيل؟ ستستحيل بلادي حتما، مادامت تلك أخلاقنا وعاداتنا، إلى مكب نفايات ضخم!
نحتاج لفرض عقوبات صارمة على من يرتكب مثل تلك الأفعال في حق الأرض التي تحتويه، المواطن قبل المقيم. نحتاج لخلق ثقافة الولاء والاحترام للمكان الذي نحيا به. نحتاج أن ندرك بأن للولاء أشكالا عديدة، تبدأ بعدم رمي المنديل الورقي على الأرض، وتنتهي بالشهادة في سبيل الوطن. نحتاج أن نؤمن بمسؤولياتنا جميعا تجاه وطننا باحترامه والمحافظة على جماله وسلامته، ليس بالكف عن تلك الممارسات الخاطئة فحسب، بل بإشعار من يرتكب تلك الأفعال بفداحتها. نحتاج لحملات توعوية بسيطة وصادقة ومدروسة - ليست كأغلب حملات اليوم - تخاطب النشء على غرار تلك التي كان يبثها تلفزيون الكويت في منتصف الثمانينيات، والتي تصور مشاهدا يقوم بها البعض برمي الأوساخ في غير محلها، أو برمي أعقاب السجائر على الأرض، ليردد الأطفال من حولهم أغنية لطالما حفظناها ورددناها: لأ لأ لأ هذا غلط .. هذا بلدنا ما تبيه!
ما دامت بلادنا "نبع الوفى الصافي وعشنا الدافي" كما يغني أبو معاذ، فلنكف عن البصق في نبعنا، ولنتوقف عن ملء عشنا بالقاذورات، ولنتذكر تلك الكلمات الجميلة دوما، ولنرددها على الدوام، كرد جميل وامتنان لهذه الأرض الطيبة التي احتوتنا. ولنحترم أرضنا حبا، لا خوفا كما نحترم الأرض الغريبة عندما نسافر.

نشرت في:


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟