«أسفار مدينة الطين - العنفوز»: بين ماضٍ ساحر بأساطيره وحاضر جامد بتفاسيره
حديث الكتب - مروة بصير
صدر ثالث الأسفار وخاتمة
الرواية الطويلة التي لن يَملّ المرء من قراءتها وإعادة قراءتها.
"سِفر العنفوز” الذي كتبتُ في مقالة سابقة أننا
بانتظارها، لتكتمل لوحة البازل، وقد كان بحق اكتمال وتميز!
سِفر بغلافٍ أزرقٌ زاهٍ يحاكي
زرقة البحر والسماء، وقمر ينير قفزة العنفوز “سليمان/غايب” أيهما يتمثل هنا يا ترى؟
وفي الغلاف الخلفي نرى أبراجَ الكويت، والنخل، وسيارة تسير دون توقف.
نقرأ كلمة السفر: “ البحر
أجمل ما يكون.. لولا شعوري بالضياع.. “، ونواصل بعدها رحلتنا مع “صادق بو حدب” الروائي
الذي سيتحول في هذا السِفر من كاتبٍ إلى مكتوب. والشايب الذي نتشوق إلى فكّ لغز حكايته.
وسليمان فتى الكهف الذي ما رَقَد، بل غطس في تبة أخذته سبعين عاماً إلى الحاضر، إلى
كويت 1990، بشمسها التي بَهتت -تسربلت بعباءة؟-، ونفطها الذي بدّل مدينة الطين إلى
الاسمنت المسلح. وقلب حرّها إلى زمهرير. وملأ “شوارعها” بالنجوم التي هبطت من السماء.
والنجوم حين تنزل تكون نذير شؤم.
يمشي سليمان الحافي بعد خروجه
من سِفر التَّبَّة في شوارع الكويت الحديثة ويشعر بالضياع، ويرغب بالعودة للبحر؛ لأنه
أجمل، لولا أنه يحاذر ما هو أشد من الموت! يحمل عملة معدنية من زمن الطين مصداقاً على
أنه في زمان غير الزمان. ولا تأتي له العُملة بطعامٍ زاكٍ، بل بالشكوك والمشكلات مهما
تلطف وتخبأ.
وعلى نقيضه “غايب” الذي غاب
في ماضي التَّبَّة حتى عاد إلى كويت الطين 1920. كلاهما يبحث عن الحقيقة وكلاهما يلبي
مطالب له - والرجل يتحمل عاقبة قراره-. كلاهما مذهولان تماماً عن العالم الغريب الذي
دخلا إليه. أحدهما يتبارك وجوده بتأييد الحكومة وبمصافحة المّلا، والآخر يسقط في المشكلات،
فأي الزمانين يا ترى أكثر تقبلاً للغريب وأكثر سلاسة في التعامل معه؟!
يجري السِفر الثالث مناصفة
بين زمنين، الماضي الساحر بأساطيره، والحاضر الميت الجامد في بتفاسيره. (فمثلاً سليمان
الذي لبسته جنية في “خن السنبوك” في 1920، يكون مصاباً برهاب الأماكن المغلقة في
1990. فأي التفسيرين أكثر سحرا)؟
ولكن ورغم المناصفة بين الزمنين،
فالأحداث تجري متجاورة لا متتالية لا ماضٍ، ولا حاضر بالفعل هنا. توجد حيوات تتجاور.
“الزمن وهم يا بو حدب، إنما هي الحيوات المتجاورة، ما تحسه جرى في زمنٍ ولّى إنما هو
يجري الآن في مكان آخر في حياة مجاورة.. ص194”. فالكاتب الفذ -سعود- لا يتوقف عن اللعب
بالزمان، وبالشخوص ولا يتوانى في تعقيد الحبكة تصاعداً حتى آخر سطر. ونركض معه في القراءة.
نسابق ولادة الهلال لعلنا نعرف: سرّ العباءة، وعاقبة التَّبَّة وحقيقة الرضيع الذي
احترق أو ما احترق. نود لو نعرف أي الخيارات ستُتخذ وأي النهايات سَتَحِل؟ وماذا لو
أُتيح للمرء فعلاً أن يغيّر حاضره بتغيير خيارات ماضيه؟ “نحن هنا وأيضاً هناك لكن بمصير
مختلف.. ص194” وتذكرتُ مرةً حين كتبت عن الندم: (لو أخرج عن ذاتي، أنسلخ عنها لأذهب
وأواجه خيارات الماضي لأحدق في عينها، أعترضها وأتحداها أن تتجاوزني).
كتبتُ في مقالتي السابقة
عن الخرافات والرمزيات البديعة في هذا العمل. ومع استمرار بعض الخرافات والرمزيات،
تظهر في هذا السِفر خرافات شعبية جديدة، تلبست بشخصيات العمل التي نحبّها، فأم السعف
والليف، والطنطل، والقط الأسود، كلها تحوم في الخلفية ولا تمنحنا السكينة. وهناك أيضاً
نبوءات الصاجات التي تتحقق ولو بعد حين، ولو باستعارة. ويخلق لنا الكاتب رمزيات جديدة،
أهمها العنفوز الذي انطفأ بدشداشته الزرقاء الباهتة، والنعلان اللّذانِ يحددان المصير
إن ارتداهما صاحبهما باليين أم جديدين! ورمزيات الأسماء (مستور الوطني ومستور القومي)،
والشمس التي بهتت بمرور الزمان.
يخلو هذا السفر من أي هوامش
ورسومات؛ لأن الرواية تُكتب حالاً وأحداثها قد تأتي بعد كتابة “بو حدب” لها أصلاً،
بل أني من عمق الإتقان كنتُ أظن فعلاً أن الكتابة تجري بينما أنا اقرأ.
لا يغفل الكاتب في سفره هذا عن أي من شخصياته الرئيسية فجميعها تظهر مجدداً
بسلاسة أنيقة، وتتفاعل بعمق مرضي، وتختفي أو تنتهي حكايتها بذكاء واحترام لعقلية القارئ،
الذي ما فتأ الكاتب اللعب معه منذ السفر الأول.
وينتهي العمل الأكمل، بنهاية مفتوحة على بعض الاحتمالات وهو ما أرضاني
شخصياً، ولو أن بعض الاسئلة تركت بلا أجوبة، فلعلنا نحن من نكتب سِفر المولاف كلٌ كما
نشاء.
جماليات هذه الثلاثية لا
تعد ومنها على سبيل المثال : اللغة الأدبية الرفيعة التي كُتب بها هذا العمل إجمالا
لا يضاهيها شيء، حبكة العمل الخالية من الثغرات على الرغم من كثرة التداخلات، التفاصيل
العميقة التي تجعل جميع المشاهد حيّة، الرمزيات الكثيفة المتكررة من دون إقحام أو ملل،
المعاني العميقة والرسائل، كل ذلك يجعل هذا العمل لا يشبه شيء سوى نفسه. ولا يمكن أن
يقارن الكاتب “سعود” سوى بنفسه، فأقول إنه قد تفوق فعلاً على نفسه. وقد قالها على لسان
“بو حدب” أنه يتمنى كتابة ثلاثية تشبهه، وقد فعل فهذه بحق ثلاثية فريدة عبقرية ومدهشة
للقراء.
أتممت قراءة السفر في أربع
ساعات مقسمة، لكنني تأخرتُ في كتابة المقالة حتى أعدتُ قراءتها للمرة الثانية؛ لأن
هذا العمل العظيم يصعب اختزاله والكتابة حوله من دون أن تعيد قراءته بتأنٍ وتبصر، ويصعب
حصر جماله ورمزياته، وكل الأفكار التي تضيء في عقلك وأنت تقرأ.
هذه ملحمة روائية، وإبداع
عظيم، وجهد يحترم، هذه رواية ستسرق لبّ من يقرأها. أما من يكتب عنها فهو يَحمل مسؤولية
كبيرة في كيفية إبراز ما تتضمنه من جمال ودهشة لا حد لها. كيف يكتب ولا يحرق وكيف يكتب
ويفيها حقها فعلاً! ولكن أياً كان العبء، فإنه لمن الفخر أن أُذكرَ يوماً من ضمن الذين
كتبوا عن هذه الملحمة ووصفوا تفاصيلها.
نصيحتي للقراء باقتناء هذه الرواية وقراءتها بتأمل، ولعل هناك من سيسأل
كما سأل سليمان “لماذا كل هذه المتاهة”؟ أقول له: اقرأ ولا تسأل، فالإبداع لا يُحاكم.