ابتسامات مبعثرة في سماء غزَّة

 

أعضاء «نادي الأدب» في «مؤسسة القطان» في غزة 

      مضت ست سنوات وخمسة شهور على لقاءٍ افتراضي جمعني بأعضاء «نادي الأدب» في «مؤسسة القطان» في غزة. كان ذلك في يوليو 2016.


     في ذلك اللقاء خالجني شعورٌ مختلف إزاء أطفالٍ مختلفين، أطفال محاصرين يقبلون على الحياة بأبسط السبل. يقاومون الحصار بالانكباب على القراءة، كما لو أنها وسيلتهم الوحيدة لثقب جدران سجنهم، وإيجاد سبيلٍ إلى فضاء عالمٍ يتجاهلهم. وأتذكر أنني تردَّدتُ كثيرًا حينما تلقيت الدعوة للمشاركة مع «أطفال» النادي من أجل مناقشة روايتِيّ «ساق البامبو» و«فئران أمي حِصَّة»، خشية أن يكون الموضوع خارج اهتماماتهم، أو أن يكون كبيرًا على نادي «أطفال وناشئة»، ولكن التجربة منحتني إيمانًا بأنني كنت مع أطفالٍ وناشئةٍ مُغايرين، بشغفهم ووعيهم وقراءتهم وأسئلتهم، والأهم.. بفائض محبتهم، وهو ما أحالني طفلًا في حضرة كبار.


     لا أعني بتلك المحبة هو ما لمسته لي شخصيًا، تلك المحبة من قارئ فلسطيني عبرت حصار غزَّة عبر الإنترنت وغمرتني بدفئها وصدقها في الكويت، إنما تلك المحبة للحياة، رغم القليل أو ربما الفتات مما تقدمه الحياة هناك، ورغم الكثير من منغصاتها التي لا تُحصى في تلك البقعة الفلسطينية المسماة غزة، المنفية بين النار والبحر.


     كانت الطفولة تراوح بين أشكالهم وبياض أرواحهم ليس إلا، عدا ذلك لا أذكر إلا أنني كنت في حضرة «كبار» بوعيهم وطبيعية أسئلتهم ومفهومهم للحياة، تلك الحياة التي لا تشبه الحياة في أي مكانٍ خارج حدود غزة. أطفال شاخ وعيهم قبل أوانه بفعل التجربة التي صقلت عقل الطفل بخبرة الشَّيخ، ونحتت روح الصغير بندوب الكبير.


     أتذكر أنني كنت أعاين في الواقع كلمات أغنية كويتية مطرَّزة في صفحات الذاكرة، زمن الانتفاضة الفلسطينية الأولى، حين ردَّد الأطفال في استاد الصداقة والسلام، شاهرين أذرعهم عاليًا في الملعب: قد وضعنا الخط الأحمر تحت مفهوم العبارة، نحن أطفالٌ ولكن في الوغى نصبح كبارا، إن تكن تملك مدفع فأنا عندي حجارة.. فتتسع ابتسامتي وأصغر أمام الذين لا ينفكون على الجرح يكبرون.


     أتذكر أني طيلة فترة المناقشة، التي جاوزت الساعة آنذاك، كنت أحدق في وجوههم الباسمة عبر شاشة الكمبيوتر، وطيف الموت يلوح لي وأنا الذي كم عرفت من فلسطينيين أحببتهم، فارقوني وما ودَّعوني إلا بخبر شهادة على القنوات الإخبارية، أو باتصال من صديق اعتاد مرور الموت في الجوار، لا يطيل الحديث بعد تحية سريعة وصوت محايد لمن اعتاد المشهد: فلان استشهد. وأنا بقلَّة خبرتي أعزي في وقتٍ ينتظر مني الآخر مباركة.


     تسربت أسماء أعضاء النادي من الذاكرة مع مرور السنوات، وبقيت وجوههم الباسمة في مخيلتي، تقفز بين حين وآخر كلما طفى على السطح في وسائل التواصل الاجتماعي الوسم المعروف والمكرر: #غزة_تحت_القصف، فتستدعي الذاكرة تلك الابتسامات التي استقبلتني طيلة فترة اللقاء عبر الإنترنت، وراء شاشة الكمبيوتر، وقد استحالت داخل رأسي ابتسامات مبعثرة في سماء غزَّة، تنتثر مثل فراشاتٍ تسمو بفرارها فوق الدُّخان. ابتسامات وجوهٍ ما نسيتها قط ولا انفكَّت تحاصرني في كل حين، تطلُّ من شقوق الذاكرة كأنما تسألني: هل تذكرنا؟ وأنا ما نسيت للحظةٍ كل الوجوه، كلها، وإن خانتني زحمة الذاكرة وسلبت مني الأسماء؛ الصبي «أبو تي-شيرت أزرق»، والصبية «ذات الحجاب البنفسجي»، والشاب «أبو نظارة»، والشَّابة «حاسرة الرأس»، والفتاة «أم السؤال الزِّنِخ» التي ما كان سؤالها زنخًا لكنها من فرط اللطف مهدَّت قبل السؤال: عندي سؤال ممكن يكون زِنِخ.


     نسيتُ اليوم السؤال وما نسيت الابتسامة، والحقيقة أن لا «زناخة» في هذا العالم بقدر تواطئه عليكم، أنتم الذين من دون أطفال العالم لا يؤرق الآخرين ذعركم وفجيعتكم ويتمكم وجوعكم وعطشكم و.. فناؤكم.


     كنت قبل أيامٍ في مناسبة أدبية في مسقط، أيام بيت الزبير للسَّرد، وفي زحمة الجدول أرسل لي صديق صورة جرَّتني من ياقة قميصي إلى غرفتي في الفندق، وأنا أحدق في صورة لمنشور عبر منصة X، صورة لسجادة صلاة مغبرة وسط أنقاض بيتٍ مقصوف، تقول «لَمَى» في منشورها فوق الصورة: «مبارح زرت بيتنا لأول مرة بعد 21 نوڤمبر. لقيت مصليتي، بابا أهدانا كل واحد مصلية بعد العمرة و كنت فرحانة فيها جداً لجمالها، طلعت مصليتي مغبرة بس حنضفها و ترجع بإذن الله حلوة زي ما بابا جابها».


     المنشور موجع لا شك، لكني ما فهمت سبب اهتمام الصديق بإرساله لي على الـ واتساب، سألته فنبهني إلى أحد التعليقات حيث تقول «نوران» تعليقًا على صورة سجادة الصلاة المغبرة:


     «تحت المصلية فئران أمي حصة والناحية التانية ساق البامبو، روايتين لسعود السنعوسي. افتكرت بيان لما كتبت أنا اسمي بيان ولو حصلي حاجة خلوا بالكم من كتبي.. ناس، مقتنيات، ذكريات، بيوتهم شايلة عمرهم كله، حياة كاملة، مش أرقام».


     فانتبهت إلى غلاف الروايتين موضوع الحديث في ذلك اللقاء مع «الأطفال والناشئة»، تحت سجادة الصلاة المغبرة، فتداعت ابتسامات أعضاء «نادي الأدب» في «مؤسسة القطان» وتزاحمت في رأسي.. ورنَّت في أُذُنيَّ الأسماء التي تضمنتها منشورات منصة  X؛ «لَمَى» و«نوران» و«بيان»، أسماء جديدة قد تكون لوجوهٍ قديمة أعرفها؛ الصبية «ذات الحجاب البنفسجي»، والشَّابة «حاسرة الرأس»، والفتاة «أم السؤال الزِّنِخ» الذي ما كان سؤالها زنخًا.


     أتذكر في نهاية لقائي بكم عبر الشاشة في ذلك الوقت، كنت أتفحَّص وجوهكم كما لو أني أدمغ بها ذاكرتي، وأتمنى لو أنني اخترقتُ الشاشة لألتقط معكم الـ «سيلفي» الذي طلبتموه، لكن حقيقةً وليس على ما تحايلتم به على قتامة الظروف، «سيلفي» من وراء الشاشة.. وقت اتفقتم أن تشهروا أصابعكم الإبهام للكاميرا، في الوقت الذي ارتفع فيه اصبعَي السبابة والوسطى مثل مقص، أشير تلقائيًّا إشارة الفلسطينيين أبدا، إشارة النصر.. كان بودِّي أن أصافحكم واحدًا واحدًا.. وأن أعانقكم جميعًا.. كان بودِّي لو أنني لم أكتفِ، في نهاية اللقاء، بقولي إنني فخورٌ بكم.. لو أني ما خجلت من البوح ساعتها، بأني رغم قوتكم الجبارة وصبركم الخارق فأنا: خايف عليكم.


المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

كيف تغني الكويت من دون صوتها؟