“ناقة صالحة”: المثيلةُ بعِلْمِ مصيرها عند الله وشاعرها والصحراء

المثنى الشيخ عطية : بشار الأسد وشكسبير.. مخرج للنظام بقطع غابة بيرنام |  مختارات من الثورة السورية
المثنى الشيخ عطية

العِلم عند الله”، عبارةٌ تتردّدُ في نهاية كل فصلٍ وتستقرّ خاتمةً أيضاً، لروايةٍ تضوع بمسك الصحراء، وإن لم تكن فاتحةً لها؛ لكنها تعوّض ذلك بفتح النهاية على بدايتها، فتكونَ فاتحة خفاء هذا “العِلم” وتجلّياته المفتوحة على التساؤلات بذلك.

رواية “ناقة صالحة” الخامسة للروائي الكويتي سعود السنعوسي، الذي دخل عالم الصحراء بخاتمة “العِلم عند الله”، وفَتَحَ المعلوم المجهول على احتمالات ما يحدث لمنْ يغامر باجتياز رمال صحراء الرواية؛ هي روايةُ تساؤلات التشويق، رغم بساطة وشفافية حكايتها بنسخته التي أضافت متعةً وقيمةً أخرى على ما تعرف منطقة الخليج ما بين السعودية والكويت، من تراث هذه الحكاية.

ولا تثير هذه التساؤلات الاهتمام بواقع مصير بطلة الحكاية وابن خالها الشاعر الذي أحبته وأحبّها وحرمتْه قوانين القبيلة منها بطلب ابن عمها الأحقّ بها لها، وفق هذه القوانين فحسب، وإنما تثير على مستوى آخر هو الأهمّ للرواية، الاهتمام بمغامرات الخيال في الخلق، وتكوين البنية الروائية التي تلمّ وتتيح تداخلاته، على صهوات السّرد التي تتطلّب حنكةً ومعرفةً وخبرةً بامتطاء الصهوات في ظروف الصحراء المتغيّرة المخادعة.

في مفتتح القراءة، ومثلما يفعل الكاتب في وضع مفتتحٍ شعريّ لكلّ فصل من فصول روايته، تناغماً مع طبيعتها التي تعالج حياة البدو ومدى تأثير الشعر فيها، تجدرُ الإشارة، إلى قوة ما يلمَسه القارئ من جهودٍ بحثيّة قام بها الروائي لإغناء وبعث الحياة في روايته، حول الصحراء بشكل خاص؛ بَشَرُها، حيواناتها، رمالها، شمسها، أمطارها، وتفاعلات كل هذه الحيوات التي تبلغُ ذروة تناغمها في الشعر المعبِّر عنها، على أنغام الربابة المصنوعة. وليس عبثاً أن يفصّل الروائي ذلك، من عيدان نباتات الصحراء وجلد حوار الإبل وذيل الفرس، وأنْ يتوِّج ذلك الشعر بأبياتٍ من قصيدة “الخَلوج”، التي افتتح بها الرواية لبطله الشاعر دخيل ابن أسمر، ونسجَها على إيقاع هذه الأبيات، لكي يعبّرَ من خلال خُلوج الناقة الفاجع على ذبيحها، عن فجيعة الأم وفجيعة الإنسان بفقد من يحبّ، وينسجَ بذلك نسختَه الفنية عن الفقد:

غیمتك شَحَّت.  ومالحٍ كلْ موجْ
أعطش، ویا كویت بیرك مالحه
ومنزلك قلبي، وأنا لولا الخَلوج
ما اترك دیاري لدیرة صالحهْ

وتجدرُ الإشارة إلى قوة الصنعة الروائية لدى السنعوسي في خلقه لهذا التناغم، رغم بعض زيادات الإيراد من تفاصيل البحث، ورغم إشكالات معالجة الواقع والخيال ومنظومة السرد، التي يُختلَف ويُتّفق عليها بحكم تجريب الروائي المغامر الذي يطرح التساؤلات.

ـــ على صعيد الحكاية، يكتشف القارئ في الملحق الذي وضعه الكاتب أن شخصيات الرواية هي شخصيات حقيقية واردة بأسمائها الحقيقية، وفق مقابلة المؤرخ الكويتي محمد بن فالح آل مهروس في جريدة الوطن الكويتية، حول حديث والده الشاعر فالح عن معركة الصّريف التي أصيب فيها أخوه الأكبر صالح ابن عم صالحة الذي تزوّجها رغم علمه بحبّها لابن خالها دخيل. وكذلك وفق استقاء الكاتب الأصلَ الواقعي لنسجه الخيالي عن مصير صالحة من كتاب “صحراء العرب” للرحالة الإنكليزي جيه. آر. إدوارد، الذي ذكر فيه لقاءه مع فتاة بدوية حسناء كانت وحيدةً مع طفلها في ربيع عام 1901، واستغرابه من مهاجمتها لدليله وعضّها له من كتفه، محاولةً قتله، من دون ذكره أنها كانت بصحبة ناقة وحوارها.

رواية الكويتي سعود السنعوسي “ناقة صالحة”: المثيلةُ بعِلْمِ مصيرها عند الله وشاعرها والصحراءوعلى هذه الأرضيات نسج السنعوسي خيال روايته عن صالحة التي قامت برحلتها عبر الصحراء من ديارها إلى الكويت لرؤية حبيبها دخيل، وزوجها الذي يُحتضر بين يديه إثر إصابته، وذلك بتحريضٍ من أخيه فالح الذي كان يعشقها، وجاء ليخبرها بهذا مخيّراً لها بين أن تأتي إليه حرّة بإرادتها كما يفضل امرأته، أو تذهب إلى دخيل. وذلك وفق خيال الكاتب المشكّك في أن فالح هو من كان وراء موت أخيه بعد الإصابة، بدلائل: تركه محتضراً بين يدي دخيل أولاً، وطبيعة الرصاصات التي تتطابق مع بندقية الصديق الإنكليزي الداعم لمبارك الصباح وحليفه ابن سعود، لا رصاصات بندقية العدو العثماني الذي يدعم ابن رشيد ثانياً، ويضاف إلى هذا ثالثاً تلفيقه قصيدة هجاء على لسان دخيل يهجو فيها عم صالحة ويتغزل بها، ليتسبب في طرده من القبيلة، وهجرته للعمل في الكويت. وأكثر من ذلك، وفق نسج الكاتب عن فالح، بلسان صالحة، أنّه صرّح لها برغبته في أن تكون له، وبتخليصها منه إذا أرادت، وبأنه هو من أغرى أخاه بالذهاب إلى المعركة، حقداً عليه من تفضيل أبيه له.

وهذا الخيال المشوّق المتداخل بتحليلٍ نفسيّ لشخصية فالح بطبيعة الحال، مع إعطائها صفة الفارس الشاعر الذي يماثل صقره في الحرية والنبل، يثير خيالَ القارئ في التساؤل إذا ما كان مهمّاً أكثر تعميق هذه الشخصية الغنية المتناقضة، وإعطاؤها فصلاً تسردُ فيه تناقضاتها، مثلما أُعطي لدخيل وصالحة في السّرد وتكوين بنية الرواية؛ أو تركها كما تمّ رسمها من قبل الكاتب بمجاهيلها في هذا “العلم عند الله”.

كما يثير هذا الخيال المشوّق حول مصير صالحة خيالَ القارئ في التساؤل حول تفاصيل مأساة مآل الهرس تحت ناقتها وضحى، في ظلّ قوة هذا المصير المطوّر عن رسم علاقة تآخٍ بلغت حدّ المماثلة، وتداخلت بولادة حبّها لدخيل في صورة بالغة التأثير، عن ولادة الحبّ في قلب ولادة الكائنات، وفي ظلّ قوة حالة الناقة الخَلوج التي رسمها السنعوسي بتناغم مع طبيعة الإبل في التعلّق الأبوي الذي يصل حدّ الحقد والانتقام القاتل.

وربما تثار في هذا التساؤل مخيّلة القارئ حول ما إذا كان مهمّاً، طالما هو خيال ولا يعرف أحدٌ ما جرى، خلقَ لقاءٍ لدخيل بصالحة المكلومة على جثة ابنها المقتول خطأً برفسة الناقة، بجانب وضحى الخَلوج على جثة حوارها الذبيح بانتقام صالحة منها على هذا الخطأ، وخلْق استسلام ما لصالحة بعد حوارها معه، إلى مصير الهرس وهي تعلم أنّ وضحى ستفعل ذلك، في عالمها الذي انهار أمامها، بحماقة وصراع وجرائم الذكور. وربما تثار مخيّلة القارئ أيضاً حول تعميق ذاكرة صالحة حول راعي الإبل الذي اغتصبها والتقته مع الإنكليزي، وحول ما يمكن للقارئ أن يتصوّر من مآلات لشخصية صالحة الفريدة، بما يردّ الصفعةَ لغلو الذكورة في قهر النساء، ويحفظ صالحة الحرّة بتاج الشَّموس، جديرةً بتسمية أرض كاملةٍ باسمها.

ـــ على صعيد زمن الحكاية: لا يثار الكثير من التساؤلات حول الزمن الذي أثّر على مصير الشخصيات، وأداره الكاتب باقتدار ناجح أولاً: على صعيد التأثير بطبيعة اصطفافها مثل ما جرى لصالح، وطبيعة وقوعها تحت ظلم الصراعات رغم تجنّبها الدخول فيها، مثل ما جرى لدخيل الذي تمّ اتهامه بالقتل لامرأة تنتمي لقبيلة متحالفة مع الكويت، أحضر جثّتها من الشعاب الغربية، ليدفنها في المدينة كي لا يضيع أثرها في الصحراء مثلما ضاع أثر والده. وتمّ سجنه للشكّ كما يبدو في أنه من قبيلة متحالفةٍ مع العدو، وليس لما يثير البعض في تعلّق ذلك بمسألة ما يسمّى “البدون” في الكويت. كما أداره الكاتب بنجاح ثانياً: على صعيد الاسترجاع والتداخل السلس الذي لا يربك القارئ ولا يضيّعه في تفتيت التسلسل.

ـــ على صعيد التناول الروائي الفني للحكاية: في البنية التي كوّنها الكاتب من خمسة فصول لا تخضع لتسلسل زمني، ويتناوب فيها السرد: (الكاتب، دخيل، صالحة، دخيل، الكاتب)، تثار التساؤلات حول الفصل الثالث الأكبر الذي يحتل أكثر من نصف الرواية، ويسرد فيه الكاتب على لسان صالحة ما حدث لها، وما تعرّضت له حياتُها من تأثيراتٍ صنعت شخصيتها على صورة ما هي عليه. ولا تتعلّق التساؤلات بطبيعة رواية الكاتب الذكر بلسان الأنثى، فالروائيون يفعلون ذلك، باللغة الفصحى أو المحكيّة التي تناسب طبيعة رواياتهم، وقد فعلها الكاتب بلغة لا تضيرها الفصحى بسبب غناها الصحراوي المناسب لموضوعها. وإنما تتعلق التساؤلات بإشغال الخيال فيما إذا كان من الأفضل إيجاد تبرير بنيوي لرواية امرأةٍ ميتة عن نفسها لم تترك أثراً لروايتها سوى الخيال، أو إذا كان من الأفضل ترك ذلك لـ “العلم عند الله”.

وختاماً، على صعيد العلم عند الله في “الخَلوج”، يظلّ التساؤل المشوّق دائراً في بداية الرواية مع سؤال الرجل الذي شكّ في أن الشيخ محمد هو الشاعر دخيل ابن أسمر نفسه، ولم يبال بحكايته، وأصرّ على: “إنما أسألك عن قصّة الناقة الخَلوج؟”.

كما يظلّ التساؤل الدي يستمرّ الكاتب في إدارته بنجاح دائراً في نهاية الرواية مع سؤال صبي الشيخ الأجير طلال له: والخلوج؟ لماذا لم یَعثُر رجالُ بِن صُباح على الخَلوج عند جثّة المرأة.

لم یُجب الشَّیخ، یمشي مولياً ظهره لطلال الذي سأله رافعاً صوته: وهل هناك ثمّة خلوج؟

لم یرَ طلال سبَّابة الشَّیخ محمّد يرفعها إلى السَّماء، ولكنّه سمع إجابةً وقَرَتْ في نفسه: “العلم عند الله”.

وفي كل هذا العلم، مع كل تساؤلات التشويق التي تثيرها رواية “ناقة صالحة” القصيرة، فهي رواية مميزة تحرّض الكتابة حولها، بأضعاف عدد الكلمات عن رواياتٍ تفوقها بأضعاف عدد الصفحات.

سعود السنعوسي: “ناقة صالحة
الدار العربية للعلوم، ومنشورات ضفاف، بيروت 2019
173 صفحة.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدينة الأحلام

هلا فبراير .. إلى من يهمه الأمر!

ابتسامات مبعثرة في سماء غزَّة